ثم قال تعالى :﴿قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ وفيه وجهان : الأول : قال عيسى اتقوا الله في تعيين المعجزة، فإنه جار مجرى التعنت والتحكم، وهذا من العبد في حضرة الرب جرم عظيم، ولأنه أيضاً اقتراح معجزة بعد تقدم معجزات كثيرة، وهو جرم عظيم. الثاني : أنه أمرهم بالتقوى لتصير التقوى سبباً لحصول هذا المطلوب، كما قال :﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ﴾ (الطلاق : ٢، ٣) وقال :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ (المائدة : ٣٥) وقوله :﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ يعني إن كنتم مؤمنين بكونه سبحانه وتعالى قادراً على إنزال المائدة فاتقوا الله لتصير تقواكم وسيلة إلى حصول هذا المطلوب.
ثم قال تعالى :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٦١
٤٦٣
والمعنى كأنهم لما طلبوا ذلك قال عليس لهم : إنه قد تقدمت المعجزات الكثيرة فاتقوا الله في طلب هذه المعجزة بعد تقدم تلك المعجزات القاهرة، فأجابوا وقالوا إنا لا نطلب هذه المائدة لمجرد أن تكون معجزة بل لمجموع أمور كثيرة : أحدها : أنا نريد أن نأكل منها فإن الجوع قد غلبنا ولا نجد طعاماً آخر، وثانيها : أنا وإن علمنا قدرة الله تعالى بالدليل، ولكنا إذا شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين وقيت الطمأنينة، وثالثها : أنا وإن علمنا قدرة الله تعالى بالدليل، ولكنا إذا شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين وقويت الطمأنينة، وثالثها : أنا وءن علمنا بسائر المعجزات صدقك، ولكن إذا شاهدنا هذه المعجزة ازداد اليقين والعرفان وتأكدت الطمأنينة. ورابعها : أن جميع تلك المعجزات التي أوردتها كانت معجزات أرضية، وهذه معجزة سماوية وهي أعجب وأعظم، فإذا شاهدناها كنا عليها من الشاهدين، نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل، ونكون عليها من الشاهدي لله بكمال القدرة ولك بالنبوة. ثم قال تعالى :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٦٣
٤٦٣
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أما الكلام في ﴿اللَّهُمَّ﴾ فقد تقدم بالاستقصاء في سورة آل عمران في قوله}قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء} (آل عمران : ٢٦) فقوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء} (آل عمران : ٢٦) فقوله :(آل عمران : ٢٦) فقوله :﴿اللَّهُمَّ﴾ نداء، وقوله ﴿رَبَّنَآ﴾ نداء ثان وأما قوله ﴿تَكُونُ لَنَا﴾ صفة للمائدة وليس بجواب للأمر، وفي قراءة عبد الله ﴿تَكُنْ﴾ لأنه جعله جواب الأمر. قال الفراء : وما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز في الفعل بعده الجزم والرفع، ومثاله قوله تعالى :﴿فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِى﴾ (مريم : ٥ ـ ٦) بالجزم والرفع ﴿فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِى ﴾ (القصص : ٣٤) بالجزم والرفع، وأما قوله ﴿عِيدًا لاوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا﴾ أي نتخذ اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيداً نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا، ونزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيداً، والعيد في اللغة اسم لما عاد إليك في وقت معلوم، واشتقاقه من عاد يعود فأصله هو العود، فسمي العيد عيداً لأنه يعود كل سنة بفرح جديد، وقوله ﴿قَالَ عِيسَى﴾ أي دلالة على توحيدك وصحة نبوة رسولك ﴿وَارْزُقْنَا﴾ أي وارزقنا طعاماً نأكله وأنت خير الرازقين.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٦٣
المسألة الثانية : تأمل في هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضاً، فقدموا ذكر الأكل فقالوا ﴿نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا﴾ (المائدة : ١١٣) وأخروا الأغراض الدينية الروحانية، فأما عيسى فإنه لما طلب المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال ﴿وَارْزُقْنَا﴾ وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية، ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء دينه وإشراق روحه لما ذكر الزرق بقوله ﴿وَارْزُقْنَا﴾ لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرزاق فقال ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الراَّزِقِينَ﴾ فقوله ﴿رَبَّنَآ﴾ ابتداء منه بذكر الحق سبحانه وتعالى، وقوله ﴿أَنزِلْ عَلَيْنَا﴾ انتقال من الذات إلى الصفات، وقوله ﴿تَكُونُ لَنَا عِيدًا لاوَّلِنَا﴾ إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة، بل من حيث إنها صادرة عن المنعم وقوله ﴿قَالَ عِيسَى﴾ إشارة إلى كون هذه المائدة دليلاً لأصحاب النظر والاستدلال وقوله ﴿وَارْزُقْنَا﴾ إشارة إلى حصة النفس وكل ذلك نزول من حضرة الجلال. فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون. ثم قال :﴿وَأَنتَ خَيْرُ الراَّزِقِينَ﴾ وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ومن غير الله إلى الله ومن الأخس إلى الأشرف، وعند ذلك تلوح لك شمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ونزولها اللهم اجعلنا من أهله.


الصفحة التالية
Icon