وإذا ثبت هذا فنقول : إن هذا يدل من بعض الوجوه، على أنه تعالى منزّه عن الشبيه في اللذات والصفات والأفعال وذلك لأن قوله ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ جار مجرى مدح النفس وذلك قبيح في الشاهد، فلما أمرنا بذلك دلّ هذا على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق، فكما أن هذا قبيح من الخلق مع أنه لا يقبح من الحق، فكذلك ليس كل ما يقبح من الخلق وجب أن يقبح من الحق. وبهذا الطريق وجب أن يبطل كلمات المعتزلة في أن ما قبح منا وجب أن يقبح من الله.
إذا عرفت بهذا الطريق أن أفعاله لا تشبه أفعال الخلق، فكذلك صفاته لا تشبه صفات الخلق، وذاته لا تشبه ذوات الخلق، وعند هذا يحصل التنزيه المطلق والتقديس الكامل عن كونه تعالى مشابهاً لغيره في الذات والصفات والأفعال، فهو الله سبحانه واحد في ذاته، لا شريك له في صفاته، ولا نظير له واحد في أفعاله لا شبيه له تعالى وتقدس والله أعلم.
أما قوله سبحانه ﴿الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ ففيه مسألتان : الأولى : في السؤالات المتوجهة على هذه الآية وهي ثلاثة :
السؤال الأول : أن قوله ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ جار مجرى ما يقال : جاءني الرجل الفقيه. فإن هذا يدل على وجود رجل آخر ليس بفقيه، وإلا لم يكن إلى ذكر هذه الصفة حاجة كذا ههنا قوله ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ يوهم أن هناك إلهاً لم يخلق السموات والأرض، وإلا فأي فائدة في هذه الصفة ؟
والجواب : أنا بينا أن قوله (الله) جار مجرى اسم العلم. فإذا ذكر الوصف لاسم العلم لم يكن المقصود من ذكر الصوف التمييز، بل تعريف كون ذلك المعنى المسمى، موصوفاً بتلك الصفة. مثاله إذا قلنا الرجل العالم، فقولنا : الرجل اسم الماهية، والماهية تتناول الأشخاص المذكورين الكثيرين. فكان المقصود ههنا من ذكر الوصف تمييز هذا الرجل بهذا الاعتبار عن سائر الرجال بهذه الصفة. أما إذا قلنا : زيد العالم، فلفظ زيد اسم علم، وهو لا يفيد إلا هذه الذات المعينة، لأن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات. فإذا وصفناه بالعلمية امتنع أن يكون المقصود منه تمييز ذلك الشخص عن غيره، بل المقصود منه تعريف كون ذلك المسمى موصوفاً بهذه الصفة. ولما كان لفظ (الله) من باب أسماء الأعلام، لا جرم كان الأمر على ما ذكرناه والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٧١
السؤال الثاني : لم قدم ذكر السماء على الأرض، مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء ؟
والجواب : السماء كالدائرة، والأرض كالمركز، وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس، فإن حصول المركز لا يوجب تعين الدائرة لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها، فلما كانت السماء متقدمة على الأرض بهذا الاعتبار وجب تقديم ذكر السماء على الأرض بهذا الاعتبار.
السؤال الثالث : لم ذكر السماء بصيغة الجمع والأرض بصيغة الواحد مع أن الأرضين أيضاً كثيرة بدليل قوله تعالى ﴿وَمِنَ الارْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ (الطلاق : ١٢).
والجواب : أن السماء جارية مجرى الفاعل والأرض مجرى القابل. فلو كانت المساء واحدة لتشابه الأثر، وذلك يخل بمصالح هذا العالم. أما لو كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية فحصل بسببها الفصول الأربعة، وسائر الأحوال المختلفة، وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم. أما الأرض فهي قابلة للأثر والقابل الواحد كاف في القبول، وأما دلالة الآية المذكورة على تعدد الأرضين فقد بينا في تفسير تلك الآية كيفية الحال فيها والله أعلم.