المسألة الثانية : اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر الدلالة على وجود الصانع. وتقريره أن أجرام السموات والأرض تقدرت في أمور مخصوصة بمقادير مخصوصة، وذلك لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار. أما بيان المقام الأول فمن وجوه : الأول : أن كل فلك مخصوص اختص بمقدار معين مع جواز أن يكون الذي كان حاصلاً مقداراً أزيد منه أو أنقص منه. والثاني : أن كل فلك بمقدار مركب من أحزاء، والجزء الداخل كان يمكن وقوعه خارجاً وبالعكس. فوقوع كل واحد منها في حيزه الخاص أمر جائز. والثالث : أن الحركة والسكون جائزان على كل الأجسام بدليل أن الطبيعة الجسمية واحدة. ولوازم الأمور الواحدة بالحركة دون السكون اختصاص بأمر ممكن. والرابع : أن كل حركة، فإنه يمكن وقوعها أسرع مما وقع وأبطأ مما وقع، فاختصاص تلك الحركة المعينة بذلك القدر المعين من السرعة والبطء اختصاص بأمر ممكن. والخامس : أن كل حركة، وقعت متوجهة إلى جهة، فإنه يمكن وقوعها متوجهة إلى سائر الجهات. فاختصاصها بالوقوع على ذلك الوجه الخاص اختصاص بأمر ممكن. والسادس : أن كل فلك فإنه يوجد جسم آخر إما أعلى منه وإما أسفل منه، وقد كان وقوعه على خلاف ذلك الترتيب أمراً ممكناً، بدليل أن الأجسام لما كانت متساوية في الطبيعة الجسمية، فكل ما صحّ على بعضها صح على كلها، فكان اختصاصه بذلك الحيز والترتيب أمراً ممكناً. والسابع : وهو أن لحركة كل فلك أولاً، لأن وجو، حركة لا أول لها محال. لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة. وهذا الانتقال يقتضي كونها مسبوقة بالغير. والأول ينافي المسبوقية بالغير، والجمع بينهما محال. فثبت أن لكل حركة أولاً، واختصاص ابتداء حدوثه بذلك الوقت، دون ما قبله وما بعده اختصاص بأمر ممكن. والثامن : هو أن الأجسام، لما كانت متساوية في تمام الماهية كان اتصاف بعضها بالفلكية وبعضها بالعنصرية دون العكس، اختصاصاً بأمر ممكن. والتاسع : وهو أن حركاتها فعل لفاعل مختار، ومتى كان كذلك فلها أول. بيان المقام الأول أن المؤثر فيها لو كان علة موجبة بالذات لزم من دوام تلك العلة دوام آثارها، فيلزم من دوام تلك العلة، دوام كل واحد من الأجزاء المتقومة في هذه الحركة. ولما كان ذلك محالاً ثبت أن المؤثر فهيا ليس علة موجبة بالذات، بل فاعلاً مختاراً. وإذا كان كذلك، وجب كون ذلك الفاعل متقدماً على هذه الحركات، وذلك يوجب أن يكون لها بداية. العاشر : أنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له بدليل أنا نعلم بالضرورة أنا لو فرضنا أنفسنا واقفين على طرف الفلك الأعلى فإنا نميز بين الجهة التي تلي قدامنا وبين الجهة التي تلي خلفنا، وثبوت هذا الامتياز معلوم بالضرورة. وإذا كان كذلك ثبت أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له، وإذا كان كذلك فحصول هذا العالم في هذا الحيز الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر مكن، فثبت بهذه الوجوه العشرة : أن أجرام السموات والأرضين مختلفة بصفات وأحوال، فكان يجوز في العقل حضول أضدادها ومقابلاتها، فوجب أن لا يحصل هذا الاختصاص الخاص إلا لمرجح ومقدر وإلا فقد ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٧١
وإذا ثبت هذا فنقول : إنه لا معنى للخلق إلا التقدير. فلما دل العقل على حصول التقدير من هذه الوجوه العشرة، وجب حصول الخلق من هذه الوجوه العشرة. فلهذا المعنى. قال :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ والله أعلم، ومن الناس من قال المقصود من ذكر السموات والأرض والظلمات والنور التنبيه على ما فيها من المنافع.
واعلم أن منافع السموات أكثر من أن تحيط بجزء من أجزائها المجلدات، وذلك لأن السموات بالنسبة إلى مواليد هذا العالم جارية مجرى الأب والأرض بالنسبة إليها جارية مجرى الأم فالعلل الفاعلة سماوية والعلل القابلة أرضية وبها يتم أمر المواليد الثلاثة. والاستقصاء في شرح ذلك لا سبيل له.
أما قوله ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : لفظ ﴿جَعَلَ﴾ يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله تعالى :﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ ﴾ وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله ﴿وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـن ِ إِنَـاثًا ﴾ (الزخرف : ١٩) والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التضمين والتصيير كإنشاء شيء من شيء، وتصيير شيء شيئاً، ومنه : قوله تعالى :﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ (الأعراف : ١٨٩) وقوله ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا﴾ (الرعد : ٣٨) وقوله ﴿أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا ﴾ (ص : ٥) وإنما حسن لفظ الجعل ههنا لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كأنه كل واحد منهما إنما تولد من الآخر.


الصفحة التالية
Icon