قلنا : المقصود من هذه الآية بيان كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، فإن الآيتين المتقدمتين يدلان على كمال القدرة، وهذه الآية تدل على كمال العلم وحينئذٍ يكمل العلم بالصفات المعتبرة في حصول الإلهية، وإن قلنا : المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدلالة على صحة المعاد، فالمقصود من هذه الآية تكميل ذلك البيان، وذلك لأن منكري المعاد إنما أنكروه لأمرين أحدهما : أنهم يعتقدون أن المؤثر في حدوث بدن الإنسان هو امتزاج الطبائع وينكرون أن يكون المؤثر فيه قادراً مختاراً. والثاني : أنهم يسلمون ذلك إلا أنهم يقولون إنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي، ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرون ثم إنه تعالى أثبت بالآيتين المتقدمتين كونه تعالى قادراً ومختاراً لا علة موجبة، وأثبا بهذه الآية كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، وحينئذٍ تبطل جميع الشبهات التي عليها مدار القول بإنكار المعاد، وصحة الحشر والنشر فهذا هو الكلام في نظم الآية وههنا مسائل :
المسألة الأولى : القائلون بأن الله تعالى مختص بالمكان تمسكوا بهذه الآية وهو قوله ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ﴾ وذلك يدل على أن الإله مستقر في السماء قالوا : ويتأكد هذا أيضاً بقوله تعالى :﴿مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ﴾ (الملك : ١٦) قالوا : ولا يلزمنا أن يقال فيلزم أن يكون في الأرض لقوله تعالى في هذه الآية ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَفِى الارْضِ ﴾ وذلك يقتضي حصوله تعالى في المكانين معاً وهو محال لأنا نقول أجمعنا على أنه ليس بموجود في الأرض، ولا يلزم من ترك العمل بأحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر من غير دليل، فوجب أن يبقى ظاهر قوله ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ﴾ على ذلك الظاهر، ولأن من القراء من وقف عند قوله ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ﴾ ثم يبتدىء فيقول ﴿وَفِى الارْضِا يَعْلَمُ سِرَّكُمْ﴾ والمعنى أنه سبحانه يعلم سرائركم الموجودة في الأرض فيكون قوله ﴿فِى الارْضِ﴾ صلة لقوله ﴿سِرَّكُمْ﴾ هذا تمام الكلام.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٨١
وأعلم أنا نقيم الدلالة أولاً على أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره، وذلك من وجوه : الأول : أنه تعالى قال في هذه السورة ﴿قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا قُل لِّلَّه ﴾ (الأنعام : ١٢) فبيّن بهذه الآية أن كل ما في السموات والأرض فهو ملك لله تعالى ومملوك له، فلو كان الله أحد الأشيء الموجودة في السموات لزم كونه ملكاً لنفسه، وذلك محال، ونظير هذه الآية قوله في سورة طه ﴿لَه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ (طه : ٦) فإن قالوا قوله ﴿قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ هذا يقتضي أن كل ما في السموات فهو لله إلا أن كلمة ما مختصة بمن لا يعقل فلا يدخل فيها ذات الله تعالى.
قلنا : لا نسلم والدليل عليه قوله ﴿وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا * وَالارْضِ وَمَا طَحَـاـاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاـاهَا﴾ (الشمس : ٥ ـ ٧) ونظيره ﴿وَلا أَنتُمْ عَـابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ (الكافرون : ٣) ولا شك أن المراد بكلمة ما ههنا هو الله سبحانه. والثاني : أن قوله ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ﴾ إما أن يكون المراد منه أنه موجود في جميع السموات، أو المراد أنه موجود في سماء واحدة. والثاني : ترك للظاهر والأول : على قسمين لأنه ءما أن يكون الحاصل منه تعالى في أحد السموات عين ما حصل منه في سائر السموات أو غيره، والأول : يقتضي حصول المتحيز الواحد في مكانين وهو باطل ببديهة العقل. والثاني : يقتضي كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض وهو محال. والثالث : أنه لو كان موجوداً في المسوات لكان محدوداً متنايهاً وكل ما كان كذلك كان قبوله للزيادة والنقصان ممكناً، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدر وكل ما كان كذلز فهو محدث. والرابع : أنه لو كان في السموات فهل يقدر على خلق عالم آخر فوق السموات أو لا يقدر، والثاني : يوجب تعجيزه والأول : يقتضي أنه تعالى لو فعل ذلك لحصل تحت هذا العالم، والقوم ينكرون كونه تحت العالم والخامس : أنه تعالى قال :﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ﴾ (الحديد : ٤) وقال :﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق : ١٦) وقال :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٨١


الصفحة التالية
Icon