واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين : أما الأول : فقوله ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ الامْرُ﴾ ومعنى القضاء الإتمام والإلزام. وقد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة. ثم ههنا وجوه : الأول : أن إنزال الملك على البشر آية باهرة، فبتقدير إنزال الملك على هؤلاء اللكفار فربما لم يؤمنوا كما قال :﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة ﴾ إلى قوله ﴿مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ﴾ (الأنعام : ١١١) وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال، فإن سنّة الله جارية بأن عند ظهور الآية الباهرة إن لم يؤمنوا جاءهم عذاب الاستئصال، فههنا ما أنزل الله تعالى الملك إليهم لئلا يستحقوا هذا العذاب والوجه الثاني : أنهم إذا شاهدوا الملك رهقت أرواحهم من هول ما يشهدون، وتقريره : أن الآدمي إذا رأى الملك فإما أن يراه على صورته الأصلية أو على صورة البشر. فإن كان الأول لم يبقَ الآدمي حياً، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما رأى جبريل عليه السلام على صورته الأصلية غشي عليه، وإن كان الثاني فحينئذ يكون المرئي شخصاً على صورة البشر، وذلك لا يتفاوت الحال فيه سواء كان هو في نفسه ملكاً أو بشراً. ألا ترى أن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم، وأضياف لوط، وكالذين تسوروا المحراب، وكجبريل حيث تمثل لمريم بشراً سوياً. والوجه الثالث : أن إنزال الملك آية باهرة جارية مجرى الالجاء، وإزالة الاختيار، وذلك مخل بصحة التكليف. الوجه الرابع : أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهات المذكورة إلا أنه يقوي الشبهات من وجه آخر، وذلك لأن أي معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك، ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة والعلم لفعلنا مثل ما فعلته أنت، فعلمنا أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهة من الوجوه المذكورة لكنه يقوي الشبهة من هذه الوجوه.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٨٦
وأما قوله ﴿ثُمَّ لا يُنظَرُونَ﴾ فالفائدة في كلمة ﴿ثُمَّ﴾ التنبيه على أن عدم الانظار أشد من قضاء الأمر، لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة. وأما الثاني : فقوله ﴿وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَـاهُ رَجُلا﴾ أي لجعلناه في صورة البشر. والحكمة فيه أمور : أحدها : أن الجنس إلى الجنس أميل. وثانيها : أن البشر لا يطيق رؤية الملك، وثالثها : ان طاعات الملائكة قوية فيستحقرون طاعة البشر، وربما لا يعذرونهم في الاقدام على المعاصي. ورابعها : أن النبوّة فضل من الله فيختص بها من يشاء من عباده، سواء كان ملكاً أو بشراً.
ثم قال :﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ قال الواحدي : يقال لبست الأمر على القوم ألبسه لبساً إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلاً، وأصله من التستر بالثوب، ومنه لبس الثوب لأنه يفيد ستر النفس والمعنى أنا إذا جعلنا الملك في صورة البشر فهم يظنون كون ذلك الملك بشراً فيعود سؤالهم أنا لا نرضى برسالة هذا الشخص. وتحقيق الكلام أن الله لو فعل ذلك لصار فعل الله نظيراً لفعلهم في التلبيس، وإنما كان ذلك تلبيساً لأن الناس يظنون أنه بشر مع أنه ليس كذلك، وإنما كان فعلهم تلبيساً لأنهم يقولون للقومهم إنه بشر مثلكم والبشر لا يكون رسولاً من عند الله تعالى.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٨٦
٤٨٧
اعلم أن بعض الأقوام الذين كانوا يقولون إن رسول الله يجب أن يكون ملكاً من الملائكة كانوا يقولون هذا الكلام على سبيل الاستهزاء، وكان يضيق قلب الرسول عند سماعه فذكر ذلك ليصير سبباً للتخفيف عن القلب لأن أحداً ما يخفف عن القلب المشاركة في سبب المحنة والغم. فكأنه قيل له إن هذه الأنواع الكثيرة من سوء الأدب التي يعاملونك بها قد كانت موجودة في سائر القرون مع أنبيائهم، فلست أنت فريداً في هذا الطريق. وقوله ﴿فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم﴾ الآية ونظيره قوله ﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه ﴾ (فاطر : ٤٣) وفي تفسيره وجوه كثيرة لأهل اللغة وهي بأسرها متقاربة. قال النضر : وجب عليهم. قال الليث (الحيق) ما حاق بالإنسان من مكر أو سوء يعمله فنزل ذلك به، يقول أحاق الله بهم مكرهم وحاق بهم مكرهم، وقال الفرّاء (حاق بهم) عالد عليهم، وقيل (حاق بهم) حل بهم ذلك. وقال الزجاج "حاق" أي أحاط. قال الأزهري : فسّر الزجاج (حاق) بمعنى أحاط وكان مأخذخ من الحوق وهو ما استدار بالكمرة. وفي الآية بحث آخر وهو أن لفظة (ما) في قوله ﴿مَّا كَانُوا بِه ﴾ فيها قولان : الأول : أن المراد به القرآن والشرع وهو ما جاء به محمد عليه السلام. وعلى هذا التقدير فتصير هذه الآية من باب حذف المضاف، والتقدير فحاق بهم عقاب ما كانوا به يستهزؤن.
والقول الثاني : أن المراد به أنهم كانوا يستهزؤن بالعذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى هذا الإضمار.


الصفحة التالية
Icon