جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٨٧
٤٨٨
اعلم أنه تعالى كما صبر رسوله بالآية الأولى، فكذلك حذر القوم بهذه الآية، وقال لرسوله قل لهم لا تغتروا بما وجدتم من الدنيا وطيباتها ووصلتم إليه من لذاتها وشهواتها، بل سيروا في الأرض لتعرفوا صحة ما أخبركم الرسول عنه من نزول العذاب على الذين كذبوا الرسل في الأزمنة السالفة، فإنكم عند السير في الأرض والسفر في البلاد لا بدّ وأن تشاهدوا تلك الآثار، فيكمل الاعتبار، ويقوى الاستبصار.
فإن قيل : ما الفرق بين قوله ﴿الارْضِ فَانظُرُوا ﴾ (آل عمران : ١٣٧) وبين قوله ﴿ثُمَّ انظُرُوا ﴾.
قلنا : قوله ﴿فَانظُرُوا ﴾ يدل على أنه تعالى جعل النظر سبباً عن السير، فكأنه قيل : سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين.
وأما قوله ﴿سِيرُوا فِى الارْضِ ثُمَّ انظُرُوا ﴾ فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ثم نبّه الله تعالى على هذا الفرق بكلمة ﴿ثُمَّ﴾ لتباعد ما بين الواجب والمباح. والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٨٨
٤٨٨
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن المقصود من تقرير هذه الآية تقرير إثبات الصانع، وتقرير المعاد وتقرير النبوّة وبيانه أن أحوال العالم العلوي والسفلي يدل على أن جميع هذه الأجسام موصوفة بصفات كان يجوز عليها اتصافها بأضدادها ومقابلاتها، ومتى كان كذلك، فاختصاص كل جزء من الأجزاء الجسمانية بصفته المعينة لا بدّ وأن يكون لأجل أن الصانع الحكيم القادر المختار خصّه بتلك الصفة المعينة، فهذا يدل على أن العالم مع كل ما فيه مملوك لله تعالى.
وإذا ثبت هذا، ثبت كونه قادراً على الاعادة والحشر والنشر، لأن التركيب الأول إنما حصل لكونه تعالى قادراً على كل الممكنات، عالماً بكل المعلومات، وهذه القدرة والعلم يمتنع زوالهما، فوجب صحة الاعادة ثانياً. وأيضاً ثبت أنه تعالى ملك مطاع، والملك المطاع من له الأمر والنهي على عبيده، ولا بد من مبلغ، وذلك يدل على أن بعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى إلى الخلق غير ممتنع. فثبت أن هذه الآية وافية بإثبات هذه المطالب الثلاثة. ولما سبق ذكر هذه المسائل الثلاثة، ذكر الله بعدها هذه الآية لتكون مقررة لمجموع تلك المطالب من الوجه الذي شرحناه والله أعلم.
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ سؤال. وقوله ﴿قُل لِّلَّهِ﴾ جواب فقد أمره الله تعالى بالسؤال أولاً ثم بالجواب ثانياً. وهذا، إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا يقدر على دفعه دافع. ولما بينا أن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة في ذوات جميع الأجسام وفي جميع صفاتها، لا جرم كان الاعتراف بأنها بأسرها ملك لله تعالى وملك له ومحل تصرفه وقدرته لا جرم أمره بالسؤال أولاً ثم بالجواب ثانياً، ليدل ذلك على أن الاقرار بهذا المعنى مما لا سبيل إلى دفعه البتة. وأيضاً فالقوم كانوا معترفين بأن كل العالم ملك لله، وملكه وتحت تصرفه وقهره وقدرته بهذا المعنى كما قال :﴿وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه ﴾ (لقمان : ٢٥) ثم إنه تعالى لما بيّن بهذا الطريق كممال إلهيته وقدرته ونفاذ تصرفه في عالم المخلوقات بالكلية، أردفه بكمال رحمته وإحسانه إلى الخلق فقال :﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ فكأنه تعالى قال : إنه لم يرض من نفسه بأن لا ينعم ولا بأن يعد بالإنعام، بل أبداً ينعم وأبداً يعد في المستقبل بالإنعام ومع ذلك فقد كتب على نفسه ذلك وأوجبه إيجاب الفضل والكرم. واختلفوا في المراد بهذه الرحمة فقال بعضهم : تلك الرحمة هي أنه تعالى يمهلهم مدة عمرهم ويرفع عنهم عذاب الاستئصال ولا يعالجلهم بالعقوبة في الدنيا. وقيل إن المراد أنه كتب على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدقهم وقبل شريعتهم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٨٨
واعلم أنه جاءت الأخبار الكثيرة في سعة رحمة الله تعالى، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"لما فرغ الله من الخلق كتب كتاباً أن رحمتي سبقت غضبي".
فإن قيل : الرحمة هي إرادة الخير، والغضب هو إرادة الانتقام، وظاهر هذا الخبر يقتضي كون إحدى الإرادتين سابقة على الأخرى، والمسبوق بالغير محدث، فهذا يقتضي كون إرادة الله تعالى محدثة.
قلنا : المراد بهذا السبق سبق الكثرة لا سبق الزمان. وعن سلمان أنه تعالى لما خلق السماء والأرض خلق مائة رحمة، كل رحمة ملء ما بين السماء والأرض، فعنده تسع وتسعون رحمة، وقسم رحمة واحدة بين الخلائق، فبها يتعاطفون ويتراحمون، فإذا كان آخر الأمر قصرها على المتقين.
أما قوله ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ﴾ ففيه أبحاث : الأول :"اللام" في قوله ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ لام قسم مضمر، والتقدير : والله ليجمعنكم.


الصفحة التالية
Icon