البحث الثاني : اختلفوا في أن هذا الكلام مبتدأ أو متعلق بما قبله. فقال بعضهم أنه كلام مبتدأ، وذلك لأنه تعالى بيّن كمال إلهيته بقوله ﴿قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا قُل لِّلَّه ﴾ ثم بيّن تعالى أنه يرحمهم في الدنيا بالامهال ودفع عذاب الاستئصال، وبيّن أنه يجمعهم إلى يوم القيامة، فقوله ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ أنه يمهلهم وقوله ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ﴾ أنه لا يمهلهم بل يحشرهم ويحاسبهم على كل ما فعلوا.
والقول الثاني : أنع متعلق بما قبله والتقدير : كتب ربكم على نفسه الرحمة. وكتب ربكم على نفسه ليجمعنكم إلى يوم القيامة.
وقيل : أنه لما قال :﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ فكأنه قيل : وما تلك الرحمة ؟
فقيل : إنه تعالى ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ﴾ وذلك لأنه لولا خوف العذاب يوم الققيامة لحصل الهرج والمرج ولارتفع الضبط وكثر الخبط، فصار التهديد بيوم القيامة من أعظم أسباب الرحمة في الدنيا، فكان قوله ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ﴾ كالتفسير لقوله ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾.
البحث الثالث : أن قوله ﴿قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا قُل لِّلَّه ﴾ كلام ورد على لفظ الغيبة. وقوله ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ﴾ كلام ورد على سبيل المخاطبة. والمقصود منه التأكيد في التهديد، كأنه قيل : لما علمتم أن كل ما في السموات والأرض لله وملكه، وقد علمتم أن الملك الحكيم لا يهمل أمر رعيته ولا يجوز في حكمته أن يسوي بين المطيع والعاصي وبين المشتغل بالخدمة والمعرض عنها، فهلا علمتم أنه يقيم القيامة ويحضر الخلائق ويحاسبهم في الكل ؟
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٨٨
البحث الرابع : ان كلمة ﴿إِلَى ﴾ في قوله ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ ﴾ فيها أقوال : الأول : أنها صلة والتقدير : ليجمعنكم يوم القيامة. وقيل :﴿إِلَى ﴾ بمعنى في أي ليجمعنكم في يوم القيامة.
وقيل : فيه حذف أي ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة، لأن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان. وقيل : ليجمعنكم في الدنيا بخلقكم قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة.
أما قوله ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ففيه أبحاث : الأول : في هذه الآية قولان : الأول : أن قوله ﴿الَّذِينَ﴾ موضعه نصب على البدل من الضمير في قوله ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ والمعنى ليجعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم وهو قول الأخفش. والثاني : وهو قول الزجاج، أن قوله ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم﴾ رفع بالابتداء، وقوله ﴿فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ خبره، لأن قوله ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ مشتمل على الكل، على الذين خسروا أنفسهم وعلى غيرهم "والفاء" في قوله ﴿فَهُمُ﴾ يفيد معنى الشرط والجزاء، كقولهم : الذي يكرمني فله درهم، لأن الدرهم وجب بالاكرام فكان الاكرام شرطاً والدرهم جزاء.
فإن قيل : ظاهر اللفظ يدل على أن خسرانهم سبب لعدم إيمانهم، والأمر على العكس.
قلنا : هذا يدل على أن سبق القضاء بالخسران والخذلان، هو الذي حملهم على الامتناع من الايمان، وذلك عين مذهب أهل السنّة.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٨٨
٤٩٠
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه قرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي ﴿يُصْرَفْ﴾ بفتح الياء وكسر الراء. وفاعل الصرف على هذه القراءة والضمير العائد إلى ربي من قوله ﴿إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى﴾ (الأنعام : ١٥) والتقدير : من يصرف هو عنه يومئذ العذاب. وحجة هذه القراءة قوله ﴿فَقَدْ رَحِمَه ﴾ فلما كان هذا فعلاً مسنداً إلى ضمير اسم الله تعالى وجب أن يكون الأمر في تلك اللفظة الأخرى على هذا الوجه ليتفق الفعلان، وعلى هذا التقدير : صرف العذاب مسنداً إلى الله تعالى، وتكون الرحمة بعد ذلك مسندة إلى الله تعالى، وأما الباقون فإنهم قرؤا ﴿مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ﴾ على فعل ما لم يسم فاعله، والتقدير من يصرف عنه عذاب يومئذ وإنما حسن ذلك لأنه تعالى أضاف الغذاب إلى اليوم في قوله ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (الإنعام : ١٥) فلذلك أضاف الصرف إليه. والتقدير : من يصرف عنه عذاب ذلك اليوم.
المسألة الثانية : ظاهر الآية يقتضي كون ذلك اليوم مصروفاً وذلك محال، بل المراد عذاب ذلك اليوم، وحسن هذا الحذف لكونه معلوماً.


الصفحة التالية
Icon