أما قوله ﴿قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةًا قُلِ اللَّه شَهِيدُا بَيْنِى وَبَيْنَكُم وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـاذَا الْقُرْءَانُ لانذِرَكُم بِه وَمَنا بَلَغَا أَاـاِنَّكُمْ﴾ فنقول : فيه بحثان.
البحث الأول : قرأ ابن كثير :(أينكم) بهمزة وكسرة بعدها خفيفة مشبهة ياء ساكنة بلا مدة، وأبو عمرو وقالون عن نافع كذلك إلا أنه يمد والباقون بهمزتين بلا مد.
والبحث الثاني : أن هذا استفهام معناه الجحد والانكار. قال لفراء : ولم يقل آخر لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث كما قال :﴿وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى ﴾ (الأعراف : ١٨٠) وقال :﴿فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاولَى ﴾ (طه : ٥١) ولم يقل الأول ولا الأولين وكل ذلك صواب.
ثم قال تعالى :﴿قُل لا أَشْهَدُا قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ واعلم أن هذا الكلام دال على إيجاب التوحيد والبراءة عن الشرك من ثلاثة أوجه : أولها : قوله ﴿قُل لا أَشْهَدُ ﴾ أي لا أشهد بما تذكرونه من إثبات الشركاء. وثانيها : قوله ﴿قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ﴾ وكلمة ﴿إِنَّمَآ﴾ تفيد الحصر، ولفظ الواحد صريح في التوحيد ونفي الشركاء. وثالثها : قوله ﴿إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ وفيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشركاء فثبت دلالة هذه الآية على إجاب التوحيد بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد. قال العلماء : المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام. ونص الشافعي رحمه الله على استحباب ضم التبري إلى الشهادة لقوله ﴿وَإِنَّنِى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ عقيب التصريح بالتوحيد.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٩٧
٥٠٠
اعلم أنا روينا في الآية الأولى أن الكفار سألوا اليهود والنصارى عن صفة محمد عليه الصلاة والسلام فأنكروا دلالة التوراة والإنجيل على نبوته، فبيّن الله تعالى في الآية الأولى أن شهادة الله على صحة نبوته كافية في ثبوتها وتحققها، ثم بيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم أنا لا نعرف محمداً عليه الصلاة والسلام، لأنهم يعرفونه بالنبوّة والرسالة كما يعرفون أبناءهم لما روي أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام : أنزل الله على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة، فقال يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد مني يا بني لأني لا أدري ما صنع النساء وأشهد أنه حق من الله تعالى.
وأعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون علمهم بنبوة محمد عليه السلام مثل علمهم بأبنائهم وفيه سؤال وهو أن يقال : المكتوب في التوراة والإنجيل مجرد أنه سيخرج نبي في آخر الزمان يدعو الخلق إلى الدين الحق، أو المكتوب فيه هذا المعنى مع تعين الزمان والمكان والنسب والصفة والحلية والشكل، فإن كان الأول فذلك القدر لا يدل على أن ذلك الشخص هو محمد عليه السلام، فكيف يصح أن يقال : علمهم بنوته مثل علمهم بنبوة أبنائهم، وإن كان الثاني وجب أن كيون جميع اليهود والنصارى عالمين بالضرورة من التوراة والإنجيل بكون محمد عليه الصلاة والسلام نبياً من عند الله تعالى، والكذب على الجمع العظيم لا يجوز لأنا نعلم بالضرورة أن التوراة والإنجيل حال ظهور الرسول عليه الصلاة والسلام أو يقال : إنه ما بقيت هذه التفاصيل في التوراة والإنجيل في وقت ظهوره لأجل أن التحريف قد تطرق إليهما قبل ذلك، والأول باطل لاْن إخفاء مثل هذه التفاصيل التامة في كتاب وصل إلى أهل الشرق والغرب ممتنع، والثاني أيضاً باطل، لأن على هذا التقدير لم يكن يهود ذلك الزمان، ونصارى ذلك الزمان عالمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم علمهم بنبوة أبنائهم، وحينئذٍ يسقط هذا الكلام.
والجواب عن الأول : أن يقال المراد بـ ﴿الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ﴾ اليهود والنصارى، وهم كانوا أهلاً للنظر والاستدلال، وكانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول عليه الصلاة والسلام، فعرفوا بواسطة تلك المعجزات كونه رسولاً من عند الله، والمقصود من تشبيه إحدى المعرفتين بالمعرفة الثانية هذا القدر الذي ذكرناه.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٠٠


الصفحة التالية
Icon