قلنا : أن كلمة (إذ تقام مقام (إذا) إذا أراد المتكلم المبالغة في التكرير والتوكيد، وإزالة الشبهة لأن الماضي قد وقع واستقر، فالتعبير عن المستقبل باللفظ الموضوع للماضي، يفيد المبالغة من هذا الاعتبار.
المسألة الثالثة : قال الزجاج : الامالة في النار حسنة جيدة، لأن ما بعد الألف مكسور وهو حرف الراء، كأنه تكرر في اللسان فصارت الكسرة فيه كالكسرتين.
أما قوله تعالى :﴿فَقَالُوا يَـالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِـاَايَـاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله ﴿لَنَآ أَوْ نُرَدُّ﴾ يدل على أنهم قد تمنوا أن يردوا إلى الدنيا. فأما قوله ﴿وَلا نُكَذِّبَ بِـاَايَـاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ففيه قولان : أحدهما : أنه داخل في التمني والتقدير أنهم تمنوا أن يردوا إلى الدنيا ولا يكونوا مكذبين وأن يكونوا مؤمنين.
فإن قالوا هذا باطل لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم كاذبين بقوله في آخر الآية ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ﴾ والمتمني لا يوصف بكونه كاذباً.
قلنا : لا نسلم أن المتمني لا يوصف بكونه كاذباً لأن من أظهر التمني/ فقد أخبر ضمناً كونه مريداً لذلك الشيء فلم يبعد تكذيبه فيه، ومثاله أن يقول الرجل : ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك، فهذا تمن في حكم الوعد، فلو رزق مالاً ولم يحسن إلى صاحبه لقيل إنه كذب في وعده.
القول الثاني : أن التمني تمّ عند قوله ﴿لَنَآ أَوْ نُرَدُّ﴾ وأما قوله ﴿وَلا نُكَذِّبَ بِـاَايَـاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فهذا الكلام مبتدأ وقوله تعالى في آخر الآية ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ﴾ عائد إليه وتقدير الكلام يا ليتنا نرد، ثم قالوا ولو رددنا لم نكذب بالدين وكنا من المؤمنين، ثم إنه تعالى كذبهم وبيّن أنهم لو ردوا لكذبوا ولأعرضوا عن الإيمان.
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر نرد ونكذب بالرفع في الثلاثة، فحصل من هذا أنهم اتفقوا على الرفع في قوله ﴿نُرَدُّ﴾ وذلك لأنه داخلة في التمني لا محالة، فأما الذين رفعوا قوله ﴿وَلا نُكَذِّبَ بِـاَايَـاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ﴾ ففيه وجهان : الأول : أن يكون معطوفاً على قوله ﴿نُرَدُّ﴾ فتكون الثلاثة داخل في التمني، فعلى هذا قد تمنوا الرد وأن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٠٧
والوجه الثاني : أن يقطع ولا نكذب وما بعده عن الأول، فيكون البقدير : يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، فهم ضمنوا أنهم لا يكذبون بتقدير حصول الرد. والمعنى يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا رددنا أو لم نرد أي قد عاينا وشاهدنا ما لا نكذب معه أبداً. قال سيبويه : وهو مثل قولك دعني ولا أعود، فههنا المطلوب بالسؤال تركه. فأما أنه لا يعود فغير داخل في الطلب، فكذا هنا قوله ﴿لَنَآ أَوْ نُرَدُّ﴾ الداخل في هذا التمني الرد، فأما ترك التكذيب وفعل الإيمان فغير داخل في التمني، بل هو حاصل سواء حصل الرد أو لم يحصل، وهذان الوجهان ذكرهما الزجاج والنحويون قالوا : الوجه الثاني أقوى، وهو أن يكون الرد داخلاً في التمني، ويكون ما بعده إخباراً محضاً. واحتجوا عليه بأن الله كذبهم في الآية الثانية فقال :﴿وَإِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ﴾ والمتمني لا يجوز تكذيبه، وهذا اختيار أبي عمرو. وقد احتج على صحة قوله بهذه الحجة، إلا أنا قد أجبنا عن هذه الحجة، وذكرنا أنها ليست قوية، وأما من قرأ ﴿وَلا نُكَذِّبَ بِـاَايَـاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ﴾ بالنصب ففيه وجوه : الأول : بإضمار (أن) على جواب التمني، والتقدير : يا ليتنا نرد وأن لا نكذب. والثاني : أن تكون الواو مبدلة من الفاء، والتقدير : يا ليتنات نرد فلا نكذب، فتكون الواو ههنا بمنزلة الفاء في قولن ﴿لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الزمر : ٥٨) ويتأكد هذا الوجه بما روي أن ابن مسعود كان يقرأ ﴿وَلا نُكَذِّبَ﴾ بالفاء على النصب، والثالث : أن يكون معناه الحال، والتقدير : يا ليتنا نرد غير مكذبين، كما تقول العرب ـ لا تأكل السمك وتشرب اللبن ـ أي لا تأكل السمك شارباً للبن.
واعلم أن على هذه القراءة تكون الأمور الثلاثة داخلة في التمني. وأما أن المتمن كيف يجوز تكذيبه فقد سبق تقريره. وأما قراءة ابن عامر وهي أنه كان يرفع ﴿وَلا نُكَذِّبَ﴾ وينصب ﴿وَنَكُونَ﴾ فالتقدير : أنه يجعل قوله ﴿وَلا نُكَذِّبَ﴾ داخلاً في التمني، بمعنى أنا إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon