المسألة الثالثة : قوله ﴿فَقَالُوا يَـالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ﴾ لا شبهة في أن المراد تمني ردهم إلى حالة التكليف لأن لفظ الرد إذا استعمل في المستقبل من حال إلى حال، فالمفهوم منه الرد إلى الحالة الأولى. والظاهر أن من صدر منه تقصير ثم عاين الشدائد والأحوال بسبب ذلك التقصير أنه يتمنى الرد إلى الحالة الأولى، ليسعى في إزالة جميع وجوه التقصيرات. ومعلوم أن الكفار قصروا في دار الدنيا فهم يتمنون العود إلى الدنيا لتدارك تلك التقصيرات، وذلك التدارك لا يحصل بالعود إلى الدينا فقط، ولا بترك التكذيب، ولا بعمل الإيمان بل إنما يحصل التدارك بمجموع هذه الأمور الثلاثة فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٠٧
فإن قيل : كيف يحسن منهم تمني الرد مع أنهم يعلمون أن الرد يحصل لا ألبتة.
والجواب من وجوه : الأول : لعلّهم لم يعلموا أن الرد لا يحصل. والثاني : أنهم وإن علموا أن ذلك لا يحصل ؛ إلا أن هذا العلم لا يمنع من حصول إرادة الرد كقوله تعالى :﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ﴾ (المائدة : ٣٧) وكقوله ﴿أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّه ﴾ (الأعراف : ٥٠) فلما صح أن يريدوا هذه الأشياء مع العلم بأنها لا تحصل، فبأن يتمنوه أقرب، لأن باب التمني أوسع، لأنه يصح أن يتمنى ما لا يصح أن يريد من الأمور الثلاثة الماضية.
ثم قال تعالى :﴿بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : معنى ﴿بَلِ﴾ ههنا رد كلامهم، والتقدير : أنهم ما تمنوا العود إلى الدينا، وترك التكذيب، وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان، بل لأجل خوفهم من العقاب الذي شاهدوه وعاينوه. وهذا يدل على أن الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه، لكونه إيماناً وطاعة، فأما الرغبة فيه لطلب الثواب، والخوف من العقاب فغير مفيد.
المسألة الثانية : المراد من الآية : أنه طهر لهم في الآخرة ما أخفوه في الدنيا. وقد اختلفوا في ذلك الذي أخفوه على وجوه : الأول : قال أبو روق : إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر، فذلك حين بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل. قال الواحدي : وعلى هذا القول أهل التفسير. الثاني : قال المبرد : بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها، وذلك لأن كفرهم ما كان بادياً ظاهراً لهم، لأن مضار كفرهم كانت خفية، فلما ظهرت يوم القيامة لا جرم قال الله تعالى :﴿بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ﴾ الثالث : قال الزجاج : بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء عنهم من أمر البعث والنشور. قال والدليل على صحة هذا القول أنه تعالى ذكر عقيبه ﴿وَقَالُوا إِنْ هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ﴾ (الأنعام : ٢٩) وهذا قول الحسن. الرابع : قال بعضهم : هذه الآية في المنافقين، وقد كانوا يسرون الكفر ويظهرون الإسلام، وبدا لهم يوم القيامة، وظهر بأن عرف غيرهم أنهم كانوا من قبل منافقين. الخامس : قيل بدا لهم ما كان علماؤهم يخفون من جحد نبوّة الرسول ونعته وصفته في الكتب والبشارة به، وما كانوا يحرفونه من التوراة مما يدل على ذلك.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٠٧
واعلم أن اللفظ محتمل لوجوه كثيرة. والمقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة وانهتكت أستارهم. وهو معنى قوله تعالى :﴿لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآاـاِرُ﴾ (الطارق : ٩).
ثم قال تعالى :﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ والمعنى أنه تعالى لو ردهم لم يحصل منهم ترك التكذيب وفعل الإيمان، بل كانوا يستمرون على طريقتهم الأولى في الكفر التكذيب.
فإن قيل : إن أهل القيامة قد عرفوا الله بالضرورة، وشاهدوا أنواع العقاب والعذاب فلو ردهم الله تعالى إلى الدنيا فمع هذه الأحوال كيف يمكن أن يقال : إنهم يعودون إلى الكفر بالله وإلى معصية الله.
قلنا : قال القاضي : تقرير الآية ﴿وَلَوْ رُدُّوا ﴾ إلى حالة التكليف، وإنما يحصل الرد إلى هذه الحالة لو لم يحصل في القيامة معرفة الله بالضرورة/ ولم يحصل هناك مشاهدة الأهوال وعذاب جهنم، فهذا الشرط يكون مضمراً لا محالة في الآية إلا أنا نقول هذا الجواب ضعيف، لأن المقصود من الآية بيان غلوهم في الاصرار على الكفر وعدم الرغبة في الإيمان، ولو قدرنا عدم معرفة الله تعالى في القيامة، وعدم مشاهدة أهوال القيامة لم يكن في إصرار القوم على كفرهم الأول مزيد تعجب، لأن إصرارهم على الكفر يجري مجرى إصرار سائر الكفار على الكفر في الدنيا، فعلمنا أن الشرط الذي ذكره القاضي لا يمكن اعتباره ألبتة.


الصفحة التالية
Icon