المسألة الثالثة : قرأ نافع والكسائي ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ خفيفة والباقون يكذبونك مشددة وفي هاتين القراءتين قولان : الأول : ىن بينهما فرقاً ظاهراً ثم ذكروا في تقرير الفرق وجيهن : أحدهما : كان الكسائي يقرأ بالتخفيف، ويحتج بأن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبته إلى الكذب وإلى صنعه الأباطيل من القول وأكذبته إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب وإن لم يكن ذلك بافتعاله وصنعه. قال الزجاج : معنى كذبته قلت له كذبت ومعنى أكذبته أن الذي أتى به كذب في نفسه من غير ادعاء أن ذلك القائل تكلف ذلك الكذب وأتى به على سبيل الافتعال والقصد فكأن القوم كانوا يعتقدون أن محمداً عليه السلام ما ذكر ذلك على سبيل الافتعال والترويح بل تخيل صحة تلك النبوة وتلك الرسالة، إلا أن ذلك الذي تخيله فهو في نفسه باطل. والفرق الثاني قال أبو علي : يجوز أن يكون معنى ﴿لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ أي لا يصادفونك كاذباً لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة كما يقال أحمدت الرجل إذا أصبته محموداً فأحببته وأحسنت محمدته إذا صادفته على هذه الأحوال.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥١٧
والقول الثاني : أنه لا فرق بين هاتين القراءتين : قال أبو علي : يجوز أن يكون معنى القراءتين واحداً لأن معنى التفعيل النسبة إلى الكذب بأن يقول له كذبت كما تقول ذنبته وفسقته وخطأته أي قلت له فعلت هذه الأشياء وسقيته ورعيته أي قلت له سقاك الله ورعاك وقد جاء في هذا المعنى أفعلته قالوا أسقيته أي قلت له سقاك الله. قال ذو الرمة :
وأسقيه حتى كاد مما أبثه
تكلمني أحجاره وملاعبه
أي أنسبه إلى السقيا بأن أقول سقاك الله فعلى هذا التقدير يكون معنى القراءتين واحداً، إلا إن فعلت إذا أرادوا أن يسبوه إلى أمر أكثر من أفعلت.
المسألة الرابعة : ظاهر هذه الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمداً صلى الله عليه وسلّم ولكنهم يجحدون بآيات الله واختلفوا في كيفية الجمع بين هذين الأمرين على وجوه :
الوجه الأول : أن القوم ما كانوا يكذبونه في السر ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن والنبوة. ثم ذكروا لتصحيح هذا الوجه روايات : إحداها : أن الحرث بن عامر من قريش قال يا محمد والله ما كذبتنا قط ولكنا إن اتبعناك نتخطف من أرضنا فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب. وثانيها : روي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحد غيرنا/ فقال له والله إن محمداً لصادق وما كذب قط ؟
ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجاجة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش فنزلت هذه الآية.
إذا عرفت هذا فنقول : معنى الآية على هذا التقدير أن القوم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون نبوتك بألسنتهم وظاهر قولهم وهذا غير مستبعد ونظيره قوله تعالى في قصة موسى ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ (النمل : ١٤).
الوجه الثاني : في تأويل الآية أنهم لا يقولون إنك أنت كذاب لأنهم جربوك الدهر الطويل والزمان المديد وما وجدوا منك كذباً ألبتة وسموك بالأمين فلا يقولون فيك إنك كاذب ولكن جحدوا صحة نبوتك ورسالتك إما لأنهم اعتقدوا أن محمداً عرض له نوع خبل ونقصان فلأجله تخيل من نفسه كونه رسولاً من عند الله، وبهذا التقدير : لا ينسبونه إلى الكذب أو لأنهم قالوا : إنه ما كذب في سائر الأمور، بل هو أمين في كلها إلا في هذا الوجه الواحد.
الوجه الثالث : في التأويل : أنه لما ظهرت المعجزات القاهرة على وفق دعواه، ثم إن القوم أصروا على التكذيب فالله تعالى قال له إن القوم ما كذبوك، وإنما كذبوني، ونظيره أن رجلاً إذا أهان عبداً لرجل آخر، فقال هذا الآخر : أيها العبد إنه ما أهانك، وءنما أهانني : وليس المقصود منه نفي الإهانة عنه بل المقصود تعظيم الأمر وتفخيم الشأن. وتقريره : أن إهانة ذلك العبد جارية مجرى إهانته، ونظيره قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ (الفتح : ١٠).
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥١٧
والوجه الرابع : في التأويل وهو كلام خطر بالبال، هو أن يقال المراد من قوله ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ أي لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقاً، وهو المراد من قوله ﴿وَلَـاكِنَّ الظَّـالِمِينَ بِـاَايَـاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ والمراد أنهم يقولون في كل معجزة إنها سحر وينكرون دلالة المعجزة على الصدق على الإطلاق فكان التقدير : إنهم لا يكذبونك على التعيين بل القوم يكذبون جميع الأنبياء والرسل، والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥١٧
٥١٩
في الآية مسألتان :


الصفحة التالية
Icon