والجواب فيه من وجوه : الأول : أن هذا الوصف إنما ذكر للتأكيد كقوله نعجة أنثى وكما يقال : كلمته بفي ومشيت إليه برجلي. الثاني : أنه قد يقول الرجل لعبده طِرْ في حاجتي والمراد الإسراع وعلى هذا التقدير : فقد يحصل الطيران لا بالجناح. قال الحماسي :
طاروا إليه زرافات ووحدانا
ذكر الجناح ليمتحض هذا الكلام في الطير. والثالث : أنه تعالى قال في صفة الملائكة ﴿جَاعِلِ الملائكة رُسُلا أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ ﴾ (فاطر : ١) فذكر ههنا قوله ﴿وَلا طَـا اـاِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ ليخرج عنه الملائكة فإنا بينا أن المقصود من هذا الكلام إنما يتم بذكر من كان أدون حالاً من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالاً منه.
السؤال الرابع : كيف قال :﴿إِلا أُمَمٌ﴾ مع إفراد الدابة والطائر ؟
والجواب : لما كان قوله ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الارْضِ وَلا طَـا اـاِرٍ﴾ دالاً على معنى الاستغراق ومغنياً عن أن يقول : وما من دواب ولا طيور لا جرم حمل قوله ﴿إِلا أُمَمٌ﴾ على المعنى.
السؤال الخامس : قوله ﴿إِلا أُمَمٌ أَمْثَـالُكُمْ ﴾ قال الفرّاء : يقال إن كل صنف من البهائم أمة وجاء في الحديث :"لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها" فجعل الكلاب أمة.
إذا ثبت هذا فنقول : الآية دلت على أن هذه الدواب والطيور أمثالنا، وليس فيها ما يدل على أن هذه المماثلة حصلت في أي الأحوال والأمور فبينوا ذلك.
والجواب : اختلف الناس في تعيين الأمر الذي حكم الله تعالى فيه بالمماثلة بين البشر وبين الدواب والطيور وذكروا فيه أقوالاً :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٣٠
القول الأول : نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يريد، يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني. وإلى هذا القول ذهب طائفة عظيمة من المفسرين وقالوا : إن هذه الحيوانات تعرف الله وتحمده وتوحده وتسبحه واحتجوا عليه بقوله تعالى :﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه ﴾ (الإسراء : ٤٤) وبقوله في صفة الحيوانات ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَه وَتَسْبِيحَه ﴾ (النور : ٤١) وبما أنه تعالى خاطب النمل وخاطب الهدهد، وقد استقصينا في تقرير هذا القول وتحقيقه في هذه الآيات.
وعن أبي الدرداء أنه قال : أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء : معرفة الإله، وطلب الرزق، ومعرفة الذكر والأنثى، وتهيوء كل واحد منهما لصاحبه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"من قتل عصفوراً عبثاً جاء يوم القيامة يعج إلى الله يقول يا رب إن هذا قتلني عبثاً لم ينتفع بي ولم يدعني آكل من خشاش الأرض".
والقول الثاني : المراد إلا أمم أمثالكم في كونها أمماً وجماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضاً، ويأنس بعضها ببعض، ويتوالد بعضها من بعض كالإنس إلا أن للسائل أن يقول حمل الآية على هذا الوجه لا يفيد فائدة معتبرة لأن كون الحيوانات بهذه الصفة أمر معلوم لكل أحد فلا فائدة في الاخبار عنها.
القول الثالث : المراد أنها أمثالنا في أن دبرها الله تعالى وخلقها وتكفل برزقها وهذا يقرب من القول الثاني في أنه يجري مجرى الاخبار عما علم حصوله بالضرورة.
القول الرابع : أراد تعالى أنها أمثالنا في أنها تحشر يوم القيامة يوصل إليها حقوقها، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"يقص للجماء من القرناء".
القول السادس : ما اخترناه في نظم الآية، وهو أن الكفار طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلّم الإتيان بالمعجزات القاهرة الظاهرة، فبين تعالى أن عنايته وصلت إلى جميع الحيوانات كما وصلت إلى الإنسان. ومن بلغت رحمته وفضله إلى حيث لا يبخل به على البهائم كان بأن لا يبخل به على البهائم كان بأن لا يبخل به على الإنسان أولى، فدل منع الله من إظهار تلك المعجزات القاهرة على أنه لا مصلحة لأولئك السائلين في إظهارها، وأن إظهارها على وفق سؤالهم واقتراحهم يوجب عود الضرر العظيم إليهم.
القول السابع : ما رواه أبو سليمان الخطابي عن سفيان بن عيينة، أنه لما قرأ هذه الآية قال : ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم، فمنهم من يقدم إقدام الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاوس، ومنهم من يشبه الخنزير فإنه لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل عن رجيعه ولغ فيه. فكذلك نجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها/ فإن أخطأت مرة واحدة حفظها، ولم يجلس مجلساً إلا رواه عنه.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٣٠
ثم قال : فاعلم يا أخي إنك إنما تعاشر البهائم والسباع، فبالغ في الحذار والاحتراز، فهذا جملة ما قيل في هذا الموضع.


الصفحة التالية
Icon