المسألة الثالثة : ذهب القائلون بالتناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة مخالطة عالم الملائكة، وأما إن كانت شقية جاهلة عاصية فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات، وكلما كانت تلك الأرواح أكثر شقاوة واستحقاقاً للعذاب نقلت إلى بدن حيوان أخس وأكثر شقاء وتعباً، واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فقالوا : صريح هذه الآية يدل على أنه لا دابة ولا طائر إلا وهي أمثالنا، ولفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية أما الصفات العرضية المفارقة، فالمساواة فيها غير معتبرة في حصول المماثلة. ثم إن القائلين بهذا القول زادوا عليه، وقالوا : قد ثبت هذا أن أرواح جميع الحيوانات عارفة بربها وعارفة بما يحصل لها من السعادة والشقاوة، وأن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولاً من جنسها، واحتجوا عليه بأنه ثبت بهذه الآية أن الدواب والطوير أمم. ثم إنه تعالى قال :﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ (فاطر : ٢٤) وذلك تصريح بأن لكل طائفة من هذه الحيوانات رسولاً أرسله الله إليها. ثم أكدوا ذلك بقصة الهدهد، وقصة النمل، وسائر القصص المذكورة في القرآن.
واعلم أن القوم بالتناسخ قد أبطلناه بالدلائل الجيدة في علم الأصول، وأما هذه الآية فقد ذكرنا ما يكفي في صدق حصول المماثلة في بعض الأمرة المذكورة، فلا حاجة إلى إثبات ما ذكره أهل التناسخ. والله أعلم.
ثم قال تعالى :﴿مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَـابِ مِن شَىْءٍ ﴾ وفي المراد بالكتاب قولان :
القول الأول : المراد منه الكتاب المحفوظ في العرش وعالم السموات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام، كما قال عليه السلام :"جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة".
والقول الثاني : أن المراد منه القرآن، وهذا أظهر لأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد انصرف إلى المعهود السابق، والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن، فوجب أن يكون المراد من الكتاب في هذه الآية القرآن.
إذا ثبت هذا فلقائل أن يقول : كميف قال تعالى :﴿مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَـابِ مِن شَىْءٍ ﴾ مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وتفاصيل علم الحساب، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم، وليس فيه أيضاً تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع ؟
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٣٠
والجواب : أن قوله ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَـابِ مِن شَىْءٍ ﴾ يجب أن يكون مخصوصاً ببيان الأشياء التي يجب معرفتها، ولإحاطة بها وبيانه من وجهين : الأول : أن لفظ التفريط لا يستعمل نفياً وإثباتاً إلا فيما يجب أن يبين لأن أحداً لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه. الثاني : أن جميع آيات القرآن أو الكثير منها دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ومعرفة الله ومعرفة أحكام الله، وإذا كان هذا التقييد معلوماً من كل القرآن كان المطلق ههنا محمولاً على ذلك المقيد. أما قوله إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع.
فنقول : أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه : فأما روايات المذاهب وتفاصيل الأقاويل، فلا حاجة إليها، وأما تفاصيل علم الفروع فنقول : للعلماء ههنا قولان : الأول : أنهم قالوا أن القرآن دل على أن الاجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة فكل ما دل عليه أحد الأصول الثلاثة/ كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن، وذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة :
المثال الأول : روي أن ابن مسعود كان يقول : مالي لا ألعن من لعنه الله في كتابه يعني الواشمة، والمستوشمة، والواصلة، والمستوصلة، وروي أن أمرأة قرأت جميع القرآن، ثم أتته فقالت : يا بان أم عبد، تلوت البارحة ما بين الدفتين، فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة، فقال : لو تلوتيه لوجدتيه، قال الله تعالى :﴿وَمَآ ءَاتَـاـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ (الحشر : ٧) وإن مما أتانا به رسول الله أنه قال : لعن الله الواشمة والمستوشمة" وأقول : يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك لأنه تعالى قال في سورة النساء :﴿وَإِن يَدْعُونَ إِلا شَيْطَـانًا مَّرِيدًا * لَّعَنَهُ اللَّه ﴾ (النساء : ١١٧، ١١٨) فحكم عليه باللعن، ثم عدد بعده قبائح أفعاله وذكر من جملتها قوله ﴿لِلنَّاسِا وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَـالِمُونَ * خَلَقَ اللَّهُ﴾ (النساء : ١١٩) وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٣٠


الصفحة التالية
Icon