المثال الثاني : ذكر أن الشافعي رحمه الله كان جالساً في المسجد الحرام فقال :"لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى" فقال رجل : ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور ؟
فقال :"لا شيء عليه" فقال : أين هذا في كتاب الله ؟
فقال : قال الله تعالى :﴿وَمَآ ءَاتَـاـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ ثم ذكر إسناداً إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال : للمحرم قتل الزنبور. قال الواحدي : فأجابه من كتاب الله مستنبطاً بثلاث درجات، وأقول : ههنا طريق آخر أقرب منه، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة. قال تعالى :﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ (البقرة : ٢٨٦) وقال :﴿وَلا يَسْـاَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾ (محمد : ٣٦) وقال :﴿لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تِجَـارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ ﴾ (النساء : ٢٩) فنهى عن أكل أموال الناس إلا بطريق التجارة فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة، وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل الزنبور شيء، وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة.
وأما الطريق الذي ذكره الشافعي : فهو تمسك بالعموم على أربع درجات : أولها : التمسك بعموم قوله ﴿وَمَآ ءَاتَـاـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ (الحشر : ٧) وأحد الأمور الداخلة تحت هذا أمر النبي عليه السلام بمتابعة الخلفاء الراشدين، وثانيها : التسمك بعموم قوله عليه الصلاة والسلام :"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، وثالثها : بيان أن عمر رضي الله عنه كان من الخلفاء الراشدين، ورابعها : الرواية عن عمر أنه لم يوجب في هذه المسألة شيئاً، فثبت أن الطريق الذي ذكرناه أقرب.
المثال الثالث : قال الواحدي : روي في حديث العسيف الزاني أن أباه قال للنبي صلى الله عليه وسلّم : اقض بيننا بكتاب الله فقال عليه السلام :"والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله" ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة إن اعترفت. قال الواحدي : وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب، وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلّم فهو عين كتاب الله.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٣٠
وأقول : هذا المثال حق، لأنه تعالى قال :﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل : ٤٤) وكل ما بينه الرسول عليه السلام كان داخلاً تحت هذه الآية، فثبت بهذه الأمثلة أن القرآن لما دل على أن الإجماع حجة، وأن خبر الواحد حجة، وأن القياس حجة/ فكل حكم ثبت بطريق من هذه الطرق الثلاثة، كان في الحقيقة ثابتاً بالقرآن، فعند هذا يصح قوله تعالى :﴿مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَـابِ مِن شَىْءٍ ﴾ هذا تقرير هذا القول، وهو الذي ذهب إلى نصرته جمهور الفقهاء. ولقائل أن يقول : حاصل هذه الوجه أن القرآن لما دل على خبر الواحد والقياس حجة، فكل حكم ثبت بأحد هذين الأصلين كان في الحقيقة قد ثبت بالقرآن إلا أنا نقول : حمل قوله ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَـابِ مِن شَىْءٍ ﴾ على هذا الوجه لا يجوز لأن قوله ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَـابِ مِن شَىْءٍ ﴾ ذكر في معرض تعظيم هذا الكتاب والمبالغة دي مدحه والثناء عليه، ولو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لم يحصل منه ما يوجب التعظيم، وذلك لأنا لو فرضنا أن الله تعالى قال : اعملوا بالإجماع وخبر الواحد والقياس، كان المعنى الذي ذكروه حاصلاً من هذا اللفظ والمعنى الذي يمكن تحصيله من هذا اللفظ القليل لا يمكن جعله واجباً لمدح القرآن والثناء عليه لسبب اشتمال القرآن عليه، لأن هذا إنما يوجب المدح العظيم والثناء التام لو لم يمكن تحصيله بطريق آخر أشد اختصاراً منه، فأما لما بينا أن هذا القسم المقصود يمكن حمله وتحصيله باللفظ المختصر الذي ذكرناه علمنا أنه لا يمكن ذكره في تعظيم القرآن، فثبت أن هذه الآية مذكورة في معرض تعظيم القرآن، وثبت أن المعنى الذي ذكروه لا يفيد تعظيم القرآن، فوجب أن يقال، إنه لا يجوز حمل هذه الآية على هذا المعنى، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا القول.


الصفحة التالية
Icon