والقول الثاني : في تفسير هذه الآية قول من يقول : القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام وتقريره أن الأصل براءة الذمة في حق جميع التكليف، وشغل الذمة لا بدّ فيه من دليل منفصل والتنصيص على أقسام ما لم يرد فيه التكليف ممتنع، لأن الأقسام التي لم يرد التكليف فيها غير متناهية، والتنصيص على ما لا نهاية له محال بل التنصيص إنما يمكن على المتناهي مثلاً لله تعالى ألف تكليف على العباد وذكره في القرآن وأمر محمداً عليه السلام بتبليغ ذلك الألف تكليف آخر، ثم أكد هذه الآية بقوله ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ (المائدة : ٣) وبقوله :﴿وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ﴾ (الانعام : ٥٩) فهذا تقرير مذهب هؤلاء، والاستقصاء فيه إنما يليق بأصول الفقه، والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٣٠
ولنرجع الآن إلى التفسير، فنقول : قوله ﴿مِن شَىْءٍ﴾ قال الواحدي ﴿مِنْ﴾ زائدة كقوله : ما جاء لي من أحد. وتقريره ما تركنا في الكتاب شيئاً لم نبينه. وأقول : كلمة ﴿مِنْ﴾ للتبعيض فكان المعنى ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج المكلف إليه، وهذا هو نهاية المبالغة في أنه تعالى ما ترك شيئاً مما يحتاج الملكف إلى معرفته في هذا الكتاب.
وأما قوله ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ فالمعنى أنه تعالى يحشر الدواب والطيور يوم القيامة. ويتأكد هذا بقوله تعالى :﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ (التكوير : ٥) وبما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"يقتص للجماء من القرناء" وللعقلاء فيه قولان :
القول الأول : أنه تعالى يحشر البهائم والطيور لإيصال الأعواض إليها وهو قول المعتزلة. وذلك لأن إيصال الآلام إليها من سبق جناية لا يحسن إلا للعوض، ولما كان إيصال العوض إليها واجباً، فالله تعالى يحشرها ليوصل تلك الأعواض إليها.
والقول الثاني : قول أصحابنا أن الإيجاب على الله محال، بل الله تعالى يحشرها بمجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية. واحتجوا على أن القول بوجوب العوض على الله تعالى محال باطل بأمور :
الحجة الأولى : أن الوجوب عبارة عن كونه مستلزماً للذم عند الترك وكونه تعالى مستلزماً للذم محال/ لأنه تعالى كامل لذاته والكامل لذاته لا يعقل كونه مستلزماً للذم بسبب أمر منفصل، لأن ما بالذات لا يبطل عنه عروض أمر من الخارج.
والحجة الثانية : أنه تعالى مالك لكل المحدثات، والمالك يحسن تصرفه في ملك نفسه من غير حاجة إلى العوض.
والحجة الثالثة : أنه لو حسن إيصال الضرر إلى الغير لأجل العوض، لوجب أن يحسن منا إيصال المضار إلى الغير لأجل التزام العوض من غير رضاه وذلك باطل، فثبت أن القول بالعوض باطل. والله أعلم.
إذا عرفت هذا : فلنذكر بعض التفاريع التي ذكرها القاضي في هذا الكتاب.
الفرع الأول : قال القاضي : كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآلام، وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا، فإنه يجب على الله حشره عقلاً في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض والذي لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلاً، إلا أنه تعالى أخبر أنه يحشر الكل، فمن حيث السمع يقطع بذلك. وإنما قلنا أن في الحيوانات من لا يستحق العوض ألبتة، لأنها ربما بقيت مدة حياتها مصونة عن الآلام ثم إنه تعالى يميتها من غير إيلام أصلاً. فإنه لم يثبت بالدليل أن الموت لا بدّ وأن يحصل معه شيء من الإيلام، وعلى هذا التقدير فإنه لا يستحق العوض ألبتة.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٣٠
الفرع الثاني : كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض على الله. وهي أقسام : منها ما أذن في ذبحها لأجل الأكل ومنها ما أذن في ذبحها لأجل كونها مؤذية، مثل السباع العادية والحشرات المؤذية، ومنها آلمها بالأمراض، ومنها ما أذن الله في حمل الأحمال الثقيلة عليها واستعمالها في الأفعال الشاقة وأما إذا ظلمها الناس فذلك العوض على ذلك الظالم وإذا ظلم بعضها بعضاً فذلك العوض على ذلك الظالم.
فإن قيل : إذا ذبح ما لا يؤكل لحمه على وجه التذكية فعلى من العوض ؟
أجاب بأن ذلك ظلم والعوض على الذابح، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة.
الفرع الثالث : المراد من العوض منافع عظيم بلغت في الجلالة والرفعة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة وعلمت أنه لا سبيل لها إلى تحصيل تلك المنفعة إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح فإنها كانت ترضى به، فهذا هو العوض الذي لأجله يحسن الإيلام والأضرار.


الصفحة التالية
Icon