الفرع الرابع : مذهب القاضي وأكثر معتزلة البصرة أن العوض منقطع. قال القاضي : وهو قول أكثر المفسرين، لأنهم قالوا إنه تعالى بعد توفير العوض عليها يجعلها تراباً، وعند هذا يقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً. قال أبو القاسم البخلي : يجب أن يكون العوض دائماً واحتج القاضي على قوله بأنه يحسن من الواحد منا أن يلتزم عملاً شاقاً والأجرة منقطعة، فعلمنا أن إيصال الألم إلى الغير غير مشروط بدوام الأجرة. واحتج البخلي على قوله، بأن قال : إنه لا يمكن قطع ذلكالعوض إلا بإماتة تلك البهيمة، وإماتتها توجب الألم وذلك الألم يوجب عوضاً آخر، وهكذا إلى ما لا آخر له.
والجواب عنه : أنه لم يثبت بالدليل أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا مع الإيلام. والله أعلم.
الفرع الخامس : أن البهيمة إذا استحقت على بهيمة أخرى عوضاً، فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضاً على الله تعالى فإنه ينقل ذلك العوض إلى المظلوم. وإن لم يكن الأمر كذلك فالله تعالى يكمل ذلك العوض، فهذا مختصر من أحكام الأعواض على قول المعتزلة. والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٣٠
٥٣١
فيه مسائل :
المسألة الأولى : في وجه النظم قولان : الأول : أنه تعالى بين من حال الكفار أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث كأن قلوبهم قد صارت ميتة عن قبول الإيمان بقوله ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَا وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ (الأنعام : ٣٦) فذكر هذه الآية تقريراً لذلك المعنى الثاني أنه تعالى لما ذكر في قوله ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الارْضِ وَلا طَـا اـاِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَـالُكُمْ ﴾ (الأنعام : ٣٨) في كونها دالة على كونها تحت تدبير مدبر قديم وتحت تقدير مقدر حكيم، وفي أن عناية الله محيطة بهم، ورحمته واصلة إليهم، قال بعده والمكذبون لهذه الدلائل والمنكرون لهذه العجائب صم لا يسمعون كلاماً ألبتة، بكم لا ينطقون بالحق، خائضون في ظلمات الكفر، غافلون عن تأمل هذه الدلائل.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال ليس إلا من الله تعالى. وتقريره أنه تعالى وصفهم بكونهم صماً وبكماً وبكونهم في الظلمات وهو إشارة إلى كونهم عمياً فهو بعينه نظير قوله في سورة البقرة ﴿صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ﴾ (البقرة : ١٨).
ثم قال تعالى :﴿مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ وهو صريح في أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى. قالت المعتزلة : الجواب عن هذا من وجوه :
الوجه الأول : قال الجبائي معناه أنه تعالى يجعلهم صماً وبكماً يوم القيامة عند الحشر. ويكونون كذلك في الحقيقة بأن يجعلهم في الآخرة صماً وبكماً في الظلمات، ويضلهم بذلك عن الجنة وعن طريقها ويصيرهم إلى النار، وأكد القاضي هذا القول بأنه تعالى بين في سائر الآيات أنه يحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم.
والوجه الثاني : قال الجبائي أيضاً ويحتمل أنهم كذلك في الدنيا، فيكون توسعاً من حيث جعلوا بتكذيبهم بآيات الله تعالى في الظلمات لا يهتدون إلى منافع الدين، كالصم والبكم الذين لا يهتدون إلى منافع الدنيا. فشبههم من هذا الوجه بهم، وأجرى عليهم مثل صفاتهم على سبيل التشبيه.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٣١
والوجه الثالث : قال الكعبي قوله ﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ﴾ محمول على الشتم والإهانة، لا على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة. وأما قوله تعالى :﴿مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ﴾ فقال الكعبي : ليس هذا على سبيل المجاز لأنه تعالى وإن أجمل القول فيه ههنا، فقد فصله في سائر الآيات وهو قوله ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّـالِمِينَ ﴾ (إبراهيم : ٢٧) وقوله ﴿وَمَا يُضِلُّ بِه إِلا الْفَـاسِقِينَ﴾ (البقرة : ٢٦) وقوله ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ (محمد : ١٧) وقوله ﴿يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَه ﴾ (المائدة : ١٦) وقوله ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ (إبراهيم : ٢٧) وقوله ﴿وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ﴾ (العنكبوت : ٦٩) فثبت بهذه الآيات أن مشيئة الهدى والضلال وإن كانت مجملة في هذه الآية، إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات، فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات، ثم إن المعتزلة ذكروا تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل من وجوه : الأول : أن المراد من قوله ﴿الظُّلُمَـاتِا مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ﴾ محمول على منع الألطاف فصاروا عندها كالصم والبكم. والثاني :﴿مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ﴾ يوم القيامة عن طريق الجنة وعن وجدان الثواب/ ومن يشأ أن يهديه إلى الجنة يجعله على صراط مستقيم، وهو الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة.
وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الاضلال إلا لمن يستحق عقوبة كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين.


الصفحة التالية
Icon