المسألة الأولى : اختلفوا في قوله ﴿وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِنَا﴾ فقال بعضهم هو على إطلاقه في كل من هذه صفته. وقال آخرون : بل نزل في أهل الصفة الذين سأل المشركون الرسول عليه السلام طردهم وإبعادهم، فأكرمهم الله بهذا الإكرام. وذلك لأنه تعالى نهى الرسول عليه السلام أولاً عن طردهم، ثم أمره بأن يكرمهم بهذا النوع من الإكرام. قال عكرمة : كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا رآهم بدأهم بالسلام ويقول :"الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأه بالسلام" وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن عمر لما اعتذر من مقالته واستغفر الله منها. وقال للرسول عليه السلام، ما أردت بذلك إلا الخير نزلت هذه الآية. وقال بعضهم : بل نزلت في قوم أقدموا على ذنوب، ثم جاؤه صلى الله عليه وسلّم مظهرين للندامة والأسف، فنزلت هذه الآية فيهم والأقرب من هذه الأقاويل أن تحمل هذه الآية على عمومها، فكل من آمن بالله دخل تحت هذا التشريف.
ولي ههنا إشكال، وهو : أن الناس اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة، وإذا / كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن يقال في كل واحدة من آيات السورة أن سبب نزولها هو الأمر الفلاني بعينه ؟
المسألة الثانية : قوله :﴿وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِنَا﴾ مشتمل على أسرار عالية، وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى، وآيات صفات جلاله وإكرامه وكبريائه، وآيات وحدانيته، وما سوى الله فلا نهاية له، وما لا نهاية له فلا سبيل للعقل في الوقوف عليه على التفصيل التام، إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم إنه يكون مدة حياته كالسائح في تلك القفار، وكالسابح في تلك البحار. ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات، وهذا مشرع جملي لا نهاية لتفاصيله. ثم إن العبد إذا صار موصوفاً بهذه الصفة فعند هذا أمر الله محمداً صلى الله عليه وسلّم بأن يقول لهم ﴿سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ﴾ فيكون هذا التسليم بشارة لحصول السلامة. وقوله :﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ بشارة لحصول الرحمة عقيب تلك السلامة. أما السلامة فالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخالفات وموضع التغييرات والتبديلات، وأما الكرامات فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات المقدسات، والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٨
المسألة الثالثة : ذكر الزجاج عن المبرد. أن السلامة في اللغة أربعة أشياء، فمنها سلمت سلاماً وهو معنى الدعاء، ومنها أنه اسم من أسماء الله تعالى، ومنها الإسلام، ومنها اسم للشجر العظيم، أحسبه سمي بذلك لسلامته من الآفات، وهو أيضاً اسم للحجارة الصلبة، وذلك أيضاً لسلامتها من الرخاوة. ثم قال الزجاج : قوله :﴿سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ﴾ السلام ههنا يحتمل تأويلين : أحدهما : أن يكون مصدر سلمت تسليماً وسلاماً مثل السراح من التسريح، ومعنى سلمت عليه سلاماً، دعوت له بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه. فالسلام بمعنى التسليم، والثاني : أن يكون السلام جمع السلامة، فمعنى قولك السلام عليكم/ السلامة عليكم. وقال أبو بكر بن الأنباري : قال قوم السلام هو الله تعالى فمعنى السلام عليكم يعني الله عليكم أي على حفظكم وهذا بعيد في هذه الآية لتنكير السلام في قوله ﴿فَقُلْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ ﴾ ولو كان معرفاً لصح هذا الوجه. وأقول كتبت فصولاً مشبعة كاملة في قولنا سلام عليكم وكتبتها في سورة التوبة، وهي أجنبية عن هذا الموضع فإذا نقلته إلى هذا الموضع كمل البحث والله أعلم.
أما قوله ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله كتب كذا على فلان يفيد الإيجاب. ولكمة "على" أيضاً تفيد الإيجاب ومجموعهما مبالغة في الإيجاب. فهذا يقتضي كونه سبحانه راحماً لعباده رحيماً بهم على سبيل الوجوب واختلف العقلاء في سبب ذلك الوجوب فقال أصحابنا : له سبحانه أن يتصرف في عبيده كيف شاء وأراد، إلا أنه أوجب الرحمة على نفسه على سبيل الفضل والكرم. وقالت المعتزلة : إن كونه عالماً بقبح القبائح وعالماً بكونه غنياً عنها، يمنعه من الإقدام على القبائح ولو فعله كان ظلماً، والظلم قبيح، والقبيح منه محال. وهذه المسألة من المسائل الجلية في علم الأصول.


الصفحة التالية
Icon