المسألة الثانية : دلت هذه الآية على أنه لا يمتنع تسمية ذات الله تعالى بالنفس وأيضاً قوله تعالى :﴿تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ﴾ (المائدة : ١١٦) يدل عليه، والنفس ههنا بمعنى الذات والحقيقة، وأما بمعنى الجسم والدم فالله سبحانه وتعالى مقدس عنه. لأنه لو كان جسماً لكان مركباً والمركب ممكن وأيضاً أنه أحد، والأحد لا يكون مركباً، وما لا يكون مركباً لا يكون جسماً وأيضاً أنه غني كما قال ﴿وَاللَّهُ الْغَنِىُّ﴾ والغني لا يكون مركباً وما لا يكون مركباً لا يكون جسماً وأيضاً الأجسام متماثلة في تمام الماهية، فلو كان جسماً لحصل له مثل، وذلك باطل لقوله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ ﴾ (الشورى : ١١) فأما الدلائل العقلية فكثيرة ظاهرة باهرة قوية جلية والحمد لله عليه.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٨
المسألة الثالثة : قالت المعتزلة قوله :﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ ينافي أن يقال : إنه تعالى يخلق الكفر في الكافر، ثم يعذبه عليه أبد الآباد، وينافي أن يقال : إنه يمنعه عن الإيمان، ثم يأمره حال ذلك المنع بالإيمان، ثم يعذبه على ترك ذلك الإيمان. وجواب أصحابنا : أنه ضار نافع محيي مميت، فهو تعالى فعل تلك الرحمة البالغة وفعل هذا القهر البالغ ولا منافاة بين الأمرين.
المسألة الرابعة : من الناس من قال : إنه تعالى لما أمر الرسول بأن يقول لهم :﴿سَلَـامٌ عَلَيْكُم كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ كان هذا من قول الله تعالى ومن كلامه، فهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قال لهم في الدنيا :﴿سَلَـامٌ عَلَيْكُم كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ وتحقيق هذا الكلام أنه تعالى وعد أقواماً بأنه يقول لهم بعد الموت ﴿سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ (يس : ٥٨) ثم إن أقواماً أفنوا أعمارهم في العبودية حتى صاروا في حياتهم الدنيوية كأنهم انتقلوا إلى عالم القيامة، لا جرم صار التسليم الموعود به بعد الموت في حق هؤلاء حال كونهم في الدنيا، ومنهم من قال : لا، بل هذا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام. وقوله : وعلى التقديرين فهو درجة عالية.
ثم قال تعالى :﴿أَنَّه مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُواءَا بِجَهَـالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنا بَعْدِه وَأَصْلَحَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا لا يتناول التوبة من الكفر، لأن هذا الكلام خطاب مع الذين / وصفهم بقوله :﴿وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِنَا﴾ فثبت أن المراد منه توبة المسلم عن المعصية/ والمراد من قوله ﴿بِجَهَـالَةٍ﴾ ليس هو الخطأ والغلط، لأن ذلك لا حاجة به إلى التوبة، بل المراد منه، أن تقدم على المعصية بسبب الشهوة، فكان المراد منه بيان أن المسلم إذا أقدم على الذنب مع العلم بكونه ذنباً ثم تاب منه توبة حقيقية فإن الله تعالى يقبل توبته.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٨
المسألة الثانية : قرأ نافع ﴿أَنَّه مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ﴾ بفتح الألف ﴿فَأَنَّه غَفُورٌ﴾ بكسر الألف، وقرأ عاصم وابن عامر بالفتح فيهما، والباقون بالكسر فيهما. أما فتح الأولى فعلى التفسير للرحمة، كأنه قيل : كتب ربكم على نفسه أنه من عمل منكم. وأما فتح الثانية فعلى أن يجعله بدلاً من الأولى كقوله ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَـامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ﴾ (المؤمنون : ٨٥) وقوله ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّه مَن تَوَلاهُ فَأَنَّه يُضِلُّه ﴾ (الحج : ٤) وقوله ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّه مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَه فَأَنَّ لَه نَارَ جَهَنَّمَ﴾ (التوبة : ٦٣) قال أبو علي الفارسي : من فتح الأولى فقد جعلها بدلاً من الرحمة، وأما التي بعد الفاء فعلى أنه أضمر له خبراً تقديره، فله أنه غفور رحيم، أي فله غفرانه، أو أضمر مبتدأ يكون "أن" خبره كأنه قيل : فأمره أنه غفور رحيم. وأما من كسرهما جميعاً فلأنه لما قال ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ فقد تم هذا الكلام، ثم ابتدأ وقال ﴿أَنَّه مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُواءَا بِجَهَـالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنا بَعْدِه وَأَصْلَحَ فَأَنَّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فدخلت الفاء جواباً للجزاء، وكسرت إن لأنها دخلت على مبتدأ وخبر كأنك قلت فهو غفور رحيم. إلا أن الكلام بأن أوكد هذا قول الزجاج. وقرأ نافع الأولى بالفتح والثانية بالكسر، لأنه أبدل الأولى من الرحمة، واستأنف ما بعد الفاء. والله أعلم.
المسألة الثالثة : قوله :﴿مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُواءَا بِجَهَـالَةٍ﴾ قال الحسن : كل من عمل معصية فهو جاهل، ثم اختلفوا فقيل : إنه جاهل بمقدار ما فاته من الثواب وما استحقه من العقاب، وقيل : إنه وإن علم أن عاقبة ذلك الفعل مذمومة، إلا أنه آثر اللذة العاجلة على الخير الكثير الآجل، ومن آثر القليل على الكثير قيل في العرف إنه جاهل.


الصفحة التالية
Icon