وحاصل الكلام أنه وإن لم يكن جاهلاً إلا أنه لما فعل ما يليق بالجهال أطلق عليه لفظ الجاهل، وقيل نزلت هذه الآية في عمر حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما اقترحوه، ولم يعلم بأنها مفسدة ونظير هذه الآية قوله :﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّواءَ بِجَهَـالَةٍ﴾ (النساء : ١٧).
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٨
المسألة الرابعة : قوله تعالى :﴿ثُمَّ تَابَ مِنا بَعْدِه وَأَصْلَحَ﴾ فقوله ﴿تَّابَ﴾ إشارة إلى الندم على الماضي وقوله ﴿وَأَصْلَحَ﴾ إشارة إلى كونه آتياً بالأعمال الصالحة في الزمان المستقبل. ثم قال :﴿فَأَنَّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فهو غفور بسبب إزالة العقاب، رحيم بسبب إيصال الثواب الذي هو النهاية في الرحمة. والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٨
قوله تعالى :﴿وَكَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾.
المراد كما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد والنبوة والقضاء والقدر، فكذلك نميز ونفصل لك دلائلنا وحججنا في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل وقوله :﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ عطف على المعنى كأنه قيل ليظهر الحق وليستبين، وحسن هذا الحذف لكونه معلوماً واختلف القراء في قوله فقرأ نافع بالتاء بالنصب والمعنى لتستبين يا محمد سبيل هؤلاء المجرمين. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بالياء ﴿مِّن سَبِيلٍ﴾ بالرفع والباقون بالتاء بالرفع على تأنيث سبيل. وأهل الحجاز يؤنثون السبيل، وبنو تميم يذكرونه. وقد نطق القرآن بهما فقال سبحانه ﴿بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا﴾ (الأعراف : ١٤٦) وقال ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ (إبراهيم : ٣).
فإن قيل : لم قال ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ ولم يذكر سبيل المؤمنين.
قلنا : ذكر أحد القسمين يدل على الثاني. كقوله ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُم كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَه عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ (النحل : ٨١) ولم يذكر البرد. وأيضاً فالضدان إذا كانا بحيث لا يحصل بينهما واسطة، فمتى بانت خاصية أحد القسمين بانت خاصية القسم الآخر والحق والباطل لا واسطة بينهما، فمتى استبانت طريقة المجرمين فقد استبانت طريقة المحقين أيضاً لا محالة.
قوله تعالى :﴿قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّه قُل لا أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُم قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَآ أَنَا ﴾.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٩
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة ما يدل على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين، ذكر في هذه الآية أنه تعالى نهى عن سلوك سبيلهم. فقال :﴿وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِنَا فَقُلْ سَلَـامٌ عَلَيْكُم كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَا أَنَّه مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُواءَا بِجَهَـالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنا بَعْدِه وَأَصْلَحَ فَأَنَّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَكَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ * قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّه قُل لا أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ ﴾ ثم قال :﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وما أنا من المهتدين في شيء. والمقصود كأنه يقول لهم أنتم كذلك. ولما نفى أن يكون الهوى متبعاً/ على ما يجب اتباعه بقوله :﴿قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى﴾ أي في أنه لا معبود سواه. وكذبتم أنتم حيث أشركتم به غيره.
واعلم أنه عليه الصلاة والسلام، كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك. والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب. فقال تعالى قل يا محمد :﴿مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِه ﴾ يعني قولهم ﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الأنفال : ٣٢) والمراد أن ذلك العذاب ينزله الله في الوقت الذي أراد إنزاله فيه. ولا قدرة لي على تقديمه أو تأخيره. ثم قال :﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّه ﴾ وهذا مطلق يتناول الكل. والمراد ههنا إن الحكم إلا لله فقط في تأخير عذابهم ﴿يَقُصُّ الْحَقَّ ﴾ أي القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْفَـاصِلِينَ﴾ أي القاضين، وفيه مسألتان :


الصفحة التالية
Icon