١٣
اعلم أنه تعالى لما بين كمال علمه بالآية الأولى بين كمال قدرته بهذه الآية وهو كونه قادراً على نقل الذوات من الموت إلى الحياة ومن النوم إلى اليقظة واستقلاله بحفظها في جميع الأحوال وتدبيرها على أحسن الوجوه حالة النوم واليقظة.
فأما قوله :﴿وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُم﴾ فالمعنى أنه تعالى ينيمكم فيتوفى أنفسكم التي بها تقدرون على الإدراك والتمييز كما قال جل جلاله ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاخْرَى ا إِلَى ا أَجَلٍ﴾ (الزمر : ٤٢)، فالله جل جلاله يقبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت، وههنا بحث : وهو أن النائم لا شك أنه حي ومتى كان حياً لم تكن روحه مقبوضة البتة، وإذا كان كذلك لم يصح أن يقال إن الله توفاه فلا بد ههنا من تأويل وهو أن حال النوم تغور الأرواح الحساسة من الظاهر في الباطن فصارت الحواس الظاهرة معطلة عن أعمالها، فعند النوم صار ظاهر الجسد معطلاً عن بعض الأعمال، وعند الموت صارت جملة البدن معطلة عن كل الأعمال، فحصل بين النوم وبين الموت مشابهة من هذا الاعتبار، فصح إطلاق لفظ الوفاة والموت على النوم من هذا الوجه. ثم قال :﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ﴾ يريد ما كسبتم من العمل بالنهار قال تعالى :﴿وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ﴾ والمراد منها الكواسب من الطير والسباع واحدتها جارحة. قال تعالى :﴿الَّذِينَ اجْتَرَحُوا ﴾ أي اكتسبوا. وبالجملة فالمراد منه أعمال الجوارح.
ثم قال تعالى :﴿بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ أي يرد إليكم أرواحكم في النهار، والبعث ههنا اليقظة. ثم قال :﴿لِيُقْضَى ا أَجَلٌ مُّسَمًّى ﴾ أي أعماركم المكتوبة، وهي قوله :﴿وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَه ﴾ والمعنى يبعثكم من نومكم إلى أن تبلغوا آجالكم، ومعنى القضاء فصل الأمر على سبيل التمام، ومعنى قضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٣
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه ينيمهم أولاً ثم يوقظهم ثانياً كان ذلك جارياً مجرى الإحياء بعد الإماتة، لا جرم استدل بذلك على صحة البعث والقيامة. فقال :﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ في ليلكم ونهاركم وفي جميع أحوالكم وأعمالكم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٣
١٩
اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وكمال حكمته. وتقريره أنا بينا فيما سبق أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية الفوقية بالمكان والجهة بل يجب أن يكون المراد منها الفوقية بالقهر والقدرة، كما يقال أمر فلان فوق أمر فلان بمعنى أنه أعلى وأنفذ ومنه قوله تعالى :﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ (الفتح : ١٠) ومما يؤكد أن المراد ذلك أن قوله :﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه ﴾ مشعر بأن هذا القهر إنما حصل بسبب هذه الفوقية، والفوقية المفيدة لصفة القهر هي الفوقية بالقدرة لا الفوقية بالجهة، إذ المعلوم أن المرتفع في المكان قد يكون مقهوراً. وتقرير هذا القهر من وجوه : الأول : إنه قهار للعدم بالتكوين والإيجاد، والثاني : أنه قهار للوجود بالإفناء والإفساد فإنه تعالى هو الذي ينقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى. فلا وجود إلا بإيجاده ولا عدم إلا بإعدامه في الممكنات. والثالث : أنه قهار لكل ضده بضده فيقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور، والنهار بالليل والليل بالنهار. وتمام تقريره في قوله :﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَـالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ﴾ (آل عمران : ٢٦).
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٩


الصفحة التالية
Icon