وإذا عرفت منهج الكلام. فاعلم أنه بحر لا ساحل له لأن كل مخلوق فله ضد، فالفوق ضده التحت، والماضي ضده المستقبل، والنور ضده الظلمة، والحياة ضدها الموت، والقدرة ضدها العجز. وتأمل في سائل الأحوال والصفات لتعرف أن حصول التضاد بينها يقضي عليها بالمقهورية والعجز والنقصان، وحصول هذه الصفات في الممكنات يدل على أن لها مدبراً قادراً قاهراً منزهاً عن الضد والند، مقدساً عن الشبيه والشكل. كما قال :﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه ﴾ والرابع : أن هذا / البدن مؤلف من الطبائع الأربع. وهي متنافرة متباغضة متباعدة بالطبع والخاصة فاجتماعها لا بد وأن يكون بقسر قاسر وأخطأ من قال إن ذلك القاسر هو النفس الإنسانية، وهو الذي ذكره ابن سينا في الإشارات لأن تعلق النفس بالبدن إنما يكون بعد حصول المزاج واعتدال الأمشاج، والقاهر لهذه الطبائع على الاجتماع سابق على هذا الاجتماع، والسابق على حصول الاجتماع مغاير للمتأخر عن حصول الاجتماع. فثبت أن القاهر لهذه الطبائع على الاجتماع ليس إلا الله تعالى، كما قال :﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه ﴾ وأيضاً فالجسد كثيف سفلي ظلماني فاسد عفن، والروح لطيف علوي نوراني مشرق باق طاهر نظيف، فبينهما أشد المنافرة والمباعدة. ثم إنه سبحانه جمع بينهما على سبيل القهر والقدرة، وجعل كل واحد منهما مستكملاً بصاحبه منتفعاً بالآخر. فالروح تصون البدن عن العفونة والفساد والتفرق، والبدن يصير آلة للروح في تحصيل السعادات الأبدية، والمعارف الإلهية، فهذا الاجتماع وهذا الانتفاع ليس إلا بقهر الله تعالى لهذه الطبائع، كما قال ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه ﴾ وأيضاً فعند دخول الروح في الجسد أعطى الروح قدرة على فعل الضدين، ومكنة من الطرفين إلا أنه يمتنع رجحان الفعل على الترك تارة والترك على الفعل أخرى إلا عند حصول الداعية الجازمة الخالية عن المعارض. فلما لم تحصل تلك الداعية امتنع الفعل والترك فكان إقدام الفاعل على الفعل تارة وعلى الترك أخرى بسبب حصول تلك الداعية في قلبه من الله يجري مجرى القهر فكان قاهراً لعباده من هذه الجهة، وإذا تأملت هذه الأبواب علمت أن الممكنات والمبدعات والعلويات والسفليات والذوات والصفات كلها مقهورة تحت قهر الله مسخرة تحت تسخير الله تعالى، كما قال :﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه ﴾.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٩
وأما قوله تعالى :﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾ فالمراد أن من جملة قهره لعباده إرسال الحفظة عليهم وهؤلاء الحفظة هم المشار إليهم بقوله تعالى :﴿لَه مُعَقِّبَـاتٌ مِّنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِه يَحْفَظُونَه مِنْ أَمْرِ اللَّه ﴾ (الرعد : ١١) وقوله :﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق : ١٨) وقوله :﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ * كِرَامًا كَـاتِبِينَ﴾ (الانفطار : ١٠، ١١) واتفقوا على أن المقصود من حضور هؤلاء الحفظة ضبط الأعمال. ثم اختلفوا فمنهم من يقول : إنهم يكتبون الطاعات والمعاصي والمباحات بأسرها بدليل قوله تعالى :﴿مَالِ هَـاذَا الْكِتَـابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَـاهَا ﴾ (الكهف : ٤٩) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن مع كل إنسان ملكين : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين، وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار انتظره لعله يتوب منها، فإن لم يتب كتب عليه. والقول الأول : أقوى لأن قوله تعالى :﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾ يفيد حفظة الكل من غير تخصيص.
والبحث الثاني : أن ظاهر هذه الآيات يدل على أن اطلاع هؤلاء الحفظة على الأقوال والأفعال، أما على صفات القلوب وهي العلم والجهل فليس في هذه الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها. أما في الأقوال، فلقوله تعالى :﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ وأما في الأعمال فلقوله تعالى :﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ * كِرَامًا كَـاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (الانفطار : ١٠، ١١، ١٢) فأما الإيمان والكفر والإخلاص والإشراك فلم يدل الدليل على اطلاع الملائكة عليها.
البحث الثالث : ذكروا في فائدة جعل الملائكة موكلين على بني آدم وجوهاً : الأول : أن المكلف إذا علم أن الملائكة موكلون به يحصون عليه أعماله ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك أزجر له عن القبائح. الثاني : يحتمل في الكتابة أن يكون الفائدة فيها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة لأن وزن الأعمال غير ممكن، أما وزن الصحائف فممكن. الثالث : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد. ويجب علينا الإيمان بكل ما ورد به الشرع سواء عقلنا الوجه فيه أو لم نعقل، فهذا حاصل ما قاله أهل الشريعة وأما أهل الحكمة فقد اختلفت أقوالهم في هذا الباب على وجوه :


الصفحة التالية
Icon