جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٩
الوجه الأول : قال المتأخرون منهم :﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه ﴾ ومن جملة ذلك القهر أنه خلط الطبائع المتضادة ومزج بين العناصر المتنافرة، فلما حصل بينها امتزاج استعد ذلك الممتزج بسبب ذلك الامتزاج لقبول النفس المدبرة والقوى الحسية والحركية والنطقية فقالوا المراد من قوله :﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾ تلك النفوس والقوى، فإنها هى التي تحفظ تلك الطبائع المقهورة على امتزاجاتها.
والوجه الثاني : وهو قول بعض القدماء أن هذه النفوس البشرية والأرواح الإنسانية مختلفة بجواهرها متباينة بماهياتها، فبعضها خيرة وبعضها شريرة وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والدناءة وغيرها من الصفات ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب الشفيق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يقظاتها ومناماتها تارة على سبيل الرؤيا/ وأخرى على سبيل الإلهامات فالأرواح الشريرة لها مبادىء من عالم الأفلاك، وكذا الأرواح الخيرة وتلك المبادىء تسمى في مصطلحهم بالطباع التام يعني تلك الأرواح الفلكية في تلك الطبائع والأخلاق تامة كاملة، وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها لأن المعلول في كل باب أضعف من علته ولأصحاب الطلسمات والعزائم الروحانية في هذا الباب كلام كثير.
والقول الثالث : النفس المتعلقة بهذا الجسد. لا شك في أن النفوس المفارقة عن الأجساد / لما كانت مساوية لهذه في الطبيعة والماهية فتلك النفوس المفارقة تميل إلى هذه النفس بسبب ما بينهما من المشاكلة والموافقة وهي أيضاً تتعلق بوجه ما بهذا البدن وتصير معاونة لهذه النفس على مقتضيات طبيعتها فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الذي جاءت الشريعة الحقة به ليس للفلاسفة أن يمتنعوا عنها لأن كلهم قد أقروا بما يقرب منه وإذا كان الأمر كذلك كان إصرار الجهال منهم على التكذيب باطلاً والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿حَتَّى ا إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ فهنا بحثان :
البحث الأول : أنه تعالى قال :﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ (الزمر : ٤٢) وقال :﴿الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ﴾ (الملك : ٢) فهذا النصان يدلان على أن توفي الأرواح ليس إلا من الله تعالى. ثم قال :﴿قُلْ يَتَوَفَّـاـاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ﴾ (السجدة : ١١) وهذا يقتضي أن الوفاة لا تحصل إلا من ملك الموت. ثم قال في هذه الآية :﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ فهذه النصوص الثلاثة كالمتناقضة.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٩
والجواب : أن التوفي في الحقيقة يحصل بقدرة الله تعالى، وهو في عالم الظاهر مفوض إلى ملك الموت، وهو الرئيس المطلق في هذا الباب، وله أعوان وخدم وأنصار، فحسنت إضافة التوفي إلى هذه الثلاثة بحسب الاعتبارات الثلاثة والله أعلم.
البحث الثاني : من الناس من قال : هؤلاء الرسل الذين بهم تحصل الوفاة، وهم أعيان أولئك الحفظة فهم في مدة الحياة يحفظونهم من أمر الله، وعند مجيء الموت يتوفونهم، والأكثرون أن الذين يتولون الحفظ غير الذين يتولون أمر الوفاة، ولا دلالة في لفظ الآية تدل على الفرق، إلا أن الذي مال إليه الأكثرون هو القول الثاني، وأيضاً فقد ثبت بالمقاييس العقلية أن الملائكة الذين هم معادن الرحمة والخير والراحة مغايرون للذين هم أصول الحزن والغم فطائفة من الملائكة هم المسمون بالروحانيين لإفادتهم الروح والراحة والريحان، وبعضهم يسمون بالكروبيين لكونهم مبادىء الكرب والغم والأحزان.
البحث الثالث : الظاهر من قوله تعالى :﴿قُلْ يَتَوَفَّـاـاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ﴾ أنه ملك واحد هو رئيس الملائكة الموكلين بقبض الأرواح، والمراد بالحفظة المذكورين في هذه الآية : أتباعه، وأشياعه عن مجاهد : جعل الأرض مثل الطست لملك الموت يتناول من يتناوله، وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين، وجاء في الأخبار من صفات ملك الموت ومن كيفية موته عند فناء الدنيا وانقضائها أحوال عجيبة.
والبحث الرابع : قرأ حمزة : توفاه بالألف ممالة والباقون بالتاء، فالأول لتقديم الفعل، / ولأن الجمع قد يذكر، والثاني على تأنيث الجمع.


الصفحة التالية
Icon