أما قوله تعالى :﴿وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ﴾ أي لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به، وهذا يدل على أن الملائكة الموكلين بقبض الأرواح لا يقصرون فيما أمروا به. وقوله في صفة ملائكة النار :﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ﴾ يدل على أن ملائكة العذاب لا يقصرون في تلك التكاليف، وكل من أثبت عصمة الملائكة في هذه الأحوال أثبت عصمتهم على الإطلاق، فدلت هذه الآية على ثبوت عصمة الملائكة على الإطلاق. أما قوله تعالى :﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَـاـاهُمُ الْحَقِّ ﴾ ففيه مباحث : الأول : قيل المردودون هم الملائكة يعني كما يموت بنو آدم يموت أيضاً أولئك الملائكة. وقيل : بل المردودون البشر، يعني أنهم بعد موتهم يردون إلى الله. واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن الإنسان ليس عبارة عن مجرد هذه البنية، لأن صريح هذه الآية يدل على حصول الموت للعبد ويدل على أنه بعد الموت يرد إلى الله، والميت مع كونه ميتاً لا يمكن أن يرد إلى الله لأن ذلك الرد ليس بالمكان والجهة، لكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة، بل يجب أن يكون ذلك الرد مفسراً بكونه منقاداً لحكم الله مطيعاً لقضاء الله، وما لم يكن حياً لم يصح هذا المعنى فيه، فثبت أنه حصل ههنا موت وحياة أما الموت، فنصيب البدن : فبقي أن تكون الحياة نصيباً للنفس والروح ولما قال تعالى :﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ وثبت أن المرد وهو النفس والروح، ثبت أن الإنسان ليس إلا النفس والروح، وهو المطلوب.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٩
واعلم أن قوله :﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ مشعر بكون الروح موجودة قبل البدن، لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال : إنما يكون لو أنها كانت موجودة قبل التعلق بالبدن، ونظيره قوله تعالى :﴿ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ﴾ (الفجر : ٢٨) وقوله :﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ﴾ (يونس : ٤) ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام" وحجة الفلاسفة على إثبات أن النفوس البشرية غير موجودة قبل وجود البدن حجة ضعيفة بينا ضعفها في "الكتب العقلية".
البحث الثاني : كلمة "إلى" تفيد انتهاء الغاية فقوله إلى الله يشعر بإثبات المكان والجهة لله تعالى وذلك باطل فوجب حمله على أنهم ردوا إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه.
البحث الثالث : أنه تعالى سمى نفسه في هذه الآية باسمين : أحدهما المولى، وقد عرفت أن لفظ المولى، ولفظ الولي مشتقان من الولي : أي القرب، وهو سبحانه القريب البعيد الظاهر الباطن لقوله تعالى :﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ وقوله :﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ (المجادلة : ٧) وأيضاً المعتق يسمى بالمولى، وذلك كالمشعر بأنه أعتقهم من العذاب، وهو المراد من قوله :"سبقت / رحمتي غضبي" وأيضاً أضاف نفسه إلى العبد فقال :﴿مَوْلَـاـاهُمُ الْحَقِّ ﴾ وما أضافهم إلى نفسه وذلك نهاية الرحمة، وأيضاً قال : مولاهم الحق، والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب كما قال :﴿أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ﴾ (الجاثية : ٢٣) فلما مات الإنسان تخلص من تصرفات الموالي الباطلة، وانتقل إلى تصرفات المولى الحق.
والاسم الثاني الحق : واختلفوا هل هو من أسماء الله تعالى، فقيل : الحق مصدر. وهو نقيض الباطل، وأسماء المصادر لا تجري على الفاعلين إلا مجازاً كقولنا فلان عدل ورجاء وغياث وكرم وفضل، ويمكن أن يقال : الحق هو الموجود وأحق الأشياء بالموجودية هو الله سبحانه لكونه واجباً لذاته، فكان أحق الأشياء بكونه حقاً هو هو، واعلم أنه قرىء الحق بالنصب على المدح كقولك الحمد لله الحق.
أما قوله :﴿أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَـاسِبِينَ﴾ ففيه مسائل :
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٩
المسألة الأولى : قوله :﴿أَلا لَهُ الْحُكْمُ﴾ معناه أنه لا حكم إلا لله. ويتأكد ذلك بقوله :{إن الحكم إلا لله، وذلك يوجب أنه لا حكم لأحد على شيء إلا الله، وذلك يوجب أن الخير والشر كله يحكم الله وقضائه، فلولا أن الله حكم للسعيد بالسعادة والشقي بالشقاوة، وإلا لما حصل ذلك.
المسألة الثانية : قال أصحابنا هذه الآية تدل على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب، إذ لو ثبت ذلك لثبت للمطيع على الله حكم، وهو أخذ الثواب، وذلك ينافي ما دلت الآية عليه أنه لا حكم إلا لله.
المسألة الثالثة : احتج الجبائي بهذه الآية على حدوث كلام الله تعالى. قال لو كان كلامه قديماً لوجب أن يكون متكلماً بالمحاسبة. الآن : وقبل خلقه، وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم وأصحابنا عارضوه بالعلم، فإنه تعالى كان قبل الخلق عالماً بأنه سيوجد، وبعد وجوده صار عالماً بأنه قبل ذلك وجد، فلم يلزم منه تغير العلم، فلم لا يجوز مثله في الكلام. والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon