المسألة الرابعة : اختلفوا في كيفية هذا الحساب، فمنهم من قال : إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة، لا يشغله كلام عن كلام، ومنهم من قال بل يأمر الملائكة حتى أن كل واحد من الملائكة يحاسب واحداً من العباد، لأنه تعالى لو حاسب الكفار بنفسه لتكلم معهم، وذلك باطل لقوله تعالى في صفة الكفار، ﴿وَلا يُكَلِّمُهُمُ﴾ (آل عمران : ٧٧)، وأما الحكماء فلهم كلام في تفسير هذا الحساب، وهو أنه إنما يتخلص بتقديم مقدمتين.
فالمقدمة الأولى : أن كثرة الأفعال وتكررها توجب حدوث الملكات الراسخة القوية الثابتة والاستقراء التام يكشف ع ن صحة ما ذكرناه. ألا ترى أن كل من كانت مواظبته على عمل من / الأعمال أكثر كان رسوخ الملكة التامة على ذلك العمل منه فيه أقوى.
المقدمة الثانية : إنه لما كان تكرر العمل يوجب حصول الملائكة الراسخة، وجب أن يكون لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة، بل كان يجب أن يكون لكل جزء من أجزاء العمل الواحد أثر بوجه ما في حصول تلك الملكة، والعقلاء ضربوا لهذا الباب أمثلة.
المثال الأول : أنا لو فرضنا سفينة عظيمة بحيث لو ألقي فيها مائة ألف من فإنها تغوص في الماء بقدر شبر واحد، فلو لم يلق فيها إلا حبة واحدة من الحنطة، فهذا القدر من إلقاء الجم الثقيل في تلك السفينة يوجب غوصها في الماء بمقدار قليل، وإن قلت وبلغت في القلة إلى حيث لا يدركها الحس ولا يضبطها الخيال.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٩
المثال الثاني : أنه ثبت عند الحكماء أن البسائط أشكالها الطبيعية كرات فسطح الماء يجب أن يكون كرة والقسى المشابهة من الدوائر المحيطة بالمركز الواحد متفاوتة، فإن تحدب القوس الحاصل من الدائرة العظمى يكون أقل من تحدب القوس المشابهة للأولى من الدائرة الصغرى وإذا كان الأمر كذلك فالكوز إذا ملىء من الماء، ووضع تحت الجبل كانت حدبة سطح ذلك الماء أعظم من حدبته عندما يوضع الكوز فوق الجبل، ومتى كانت الحدبة أعظم وأكثر كان احتمال الماء بالكوز أكثر، فهذا يوجب أن احتمال الكوز للماء حال كونه تحت الجبل أكثر من احتماله للماء حال كونه فوق الجبل، إلا أن هذا القدر من التفاوت بحيث لا يفي بإدراكه الحس والخيال لكونه في غاية القلة.
والمثال الثالث : إن الإنسانين اللذين يقف أحدهما بالقرب من الآخر، فإن رجليهما يكونان أقرب إلى مركز العالم من رأسيهما، لأن الأجرام الثقيلة تنزل من فضاء المحيط إلى ضيق المركز، إلا أن ذلك القدر من التفاوت لا يفي بإدراكه الحس والخيال.
فإذا عرفت هذه الأمثلة : وعرفت أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات فنقول : لا فعل من أفعال الخير والشر بقليل ولا كثير، إلا ويفيد حصول أثر في النفس. إما في السعادة، وإما في الشقاوة، وعند هذا ينكشف بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى :﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ﴾ (الزلزلة : ٧، ٨) ولما ثبت أن الأفعال توجب حصول الملكات والأفعال الصادرة من اليد، فهي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة/ وكذلك الأفعال الصادرة من الرجل، فلا جرم تكون الأيدي والأرجل شاهدة يوم القيامة على الإنسان، بمعنى أن تلك الآثار النفسانية، إنما حصلت في جواهر النفوس بواسطة هذه الأفعال الصادرة عن هذه الجوارح، فكان صدور تلك / الأفعال من تلك الجارحة المخصوصة جارياً مجرى الشهادة لحصول تلك الآثار المخصوصة في جوهر النفس، وأما الحساب : فالمقصود منه معرفة ما بقي من الدخل والخرج، ولما بينا أن لكل ذرة من أعمال الخير والشر أثراً في حصول هيئة من هذه الهيئات في جوهر النفس، إما من الهيئات الزاكية الطاهرة أو من الهيئات المذمومة الخسيسة، ولا شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة. فلا جرم كان بعضها يتعارض بالبعض، وبعد حصول تلك المعارضات بقي في النفس قدر مخصوص من الخلق الحميد، وقدر آخر من الخلق الذميم، فإذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك الخلق الحميد، ومقدار ذلك الخلق الذميم، وذلك الظهور إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم، وهو الآن الذي فيه ينقطع تعلق النفس من البدن، فعبر عن هذه الحالة بسرعة الحساب، فهذه أقوال ذكرت في تطبيق الحكمة النبوية على الحكمة الفلسفية، والله العالم بحقائق الأمور.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٩
٢٠
اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية، وكمال الرحمة والفضل والإحسان. وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon