قوله تعالى :﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِه ا أَن تُبْسَلَ نَفْسُا بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِىٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِن﴾.
اعلم أن هؤلاء هم المذكورون بقوله :﴿الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَـاتِنَا﴾ ومعنى ﴿ذَرْهُمْ﴾ أعرض عنهم وليس المراد أن يترك إنذارهم لأنه تعالى قال بعده :﴿وَذَكِّرْ بِه ﴾ ونظيره قوله تعالى :﴿ أولئك الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ والمراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم ولا يترك إنذارهم وتخويفهم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٢٥
واعلم أنه تعالى أمر الرسول بأن يترك من كان موصوفاً بصفتين :
الصفة الأولى : أن يكون من صفتهم أنهم اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وفي تفسيره وجوه : الأول : المراد أنهم اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعباً ولهواً حيث سخروا به واستهزؤوا به. الثاني : اتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم. الثالث : أن الكفار كانوا يحكمون في دين الله بمجرد التشهي والتمني، مثل تحريم السوائب والبحائر وما كانوا يحتاطون في أمر الدين البتة، ويكتفون فيه بمجرد التقليد فعبر الله تعالى عنهم أنهم اتخذوا دينهم لعباً ولهواً. والرابع : قال ابن عباس جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله تعالى. ثم إن الناس أكثرهم من المشركين، وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لهواً ولعباً غير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى. والخامس : وهو الأقرب، أن المحقق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أنه قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب. فأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدين للدنيا، وقد حكم الله على الدنيا في سائر الآيات بأنها لعب ولهو. فالمراد من قوله :﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ هو الإشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه. وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الحالة. والله أعلم.
الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا ﴾ وهذا يؤكد الوجه الخامس الذي ذكرناه كأنه تعالى يقول إنما اتخذوا دينهم لعباً ولهواً لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا. فلأجل استيلاء حب الدنيا على قلوبهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوسلوا بها إلى حطام الدنيا.
إذا عرفت هذا، فقوله :﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ معناه أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تقم لهم في نظرك وزناً ﴿وَذَكِّرْ بِه ﴾ واختلفوا في أن الضمير في قوله :﴿بِه ﴾ إلى ماذا يعود ؟
قيل : وذكر بالقرآن وقيل إه تعالى قال :﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ / والمراد الدين الذي يجب عليهم أن يتدينوا به ويعتقدوا صحته. فقوله :﴿وَذَكِّرْ بِه ﴾ أي بذلك الدين لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكور. والدين أقرب المذكور، فوجب عود الضمير إليه. أما قوله ﴿أَن تُبْسَلَ نَفْسُا بِمَا كَسَبَتْ﴾ فقال صاحب "الكشاف" : أصل الإبسال المنع ومنه، هذا عليك بسل أي حرام محظور، والباسل الشجاع لامتناعه من خصمه، أو لأنه شديد البسور، يقال بسر الرجل إذا اشتد عبوسه، وإذا زاد قالوا بسل، والعابس منقبض الوجه.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٢٥
إذا عرفت هذا فنقول : قال ابن عباس :﴿تُبْسَلَ نَفْسُا بِمَا كَسَبَتْ﴾ أي ترتهن في جهنم بما كسبت في الدنيا. وقال الحسن ومجاهد : تسلم للمهلكة أي تمنع عن مرادها وتخذل. وقال قتادة : تحبس في جهنم، وعن ابن عباس ﴿تُبْسَلَ﴾ تفضح و﴿أُبْسِلُوا ﴾ فضحوا، ومعنى الآية وذكرهم بالقرآن، ومقتضى الدين مخافة احتباسهم في نار جهنم بسبب جناياتهم لعلهم يخافون فيتقون. ثم قال تعالى :﴿لَيْسَ لَهَا﴾ أي ليس للنفس ﴿مِن دُونِ اللَّهِ وَلِىٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَآ ﴾ أي وإن تفذ كل فداء، والعدل الفدية لا يؤخذ ذلك العدل وتلك الفدية منها. قال صاحب "الكشاف" : فاعل يؤخذ ليس هو قوله :﴿عَدْلٍ﴾ لأن العدل ههنا مصدر، فلا يسند إليه الأخذ. وأما في قوله :﴿وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ فبمعنى المفدى به، فصح إسناده إليه. فنقول : الأخذ بمعنى القبول وارد. قال تعالى :﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَـاتِ﴾ أي يقبلها. وإذا ثبت هذا فيحمل الأخذ ههنا على القبول، ويزول السؤال. والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon