والمقصود من هذه الآية : بيان أن وجوه الخلاص على تلك النفس منسدة، فلا ولي يتولى دفع ذلك المحذور، ولا شفيع يشفع فيها، ولا فدية تقبل ليحصل الخلاص بسبب قبولها حتى لو جعلت الدنيا بأسرها فدية من عذاب الله لم تنفع. فإذا كانت وجوه الخلاص هي هذه الثلاثة في الدنيا، وثبت أنها لا تفيد في الآخرة البتة، وظهر أنه ليس هناك إلا الإبسال الذي هو الارتهان والانغلاق والاستسلام، فليس لها البتة دافع من عذاب الله تعالى، وإذا تصور المرء كيفية العقاب على هذا الوجه يكاد يرعد إذا أقدم على معاصي الله تعالى. ثم إنه تعالى بين ما به صاروا مرتهنين وعليه محبوسين، فقال ﴿لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمُا بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ وذلك هو النهاية في صفة الإيلام. والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٢٥
٢٧
اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على عبدة الأصنام وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك :﴿قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّه ﴾ فقال :﴿قُلْ أَنَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أي أنعبد من دون الله النافع الضار ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا، ونرد على أعقابنا راجعين إلى الشرك بعد أن أنقدنا الله منه وهدانا للإسلام ؟
ويقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل أنه رجع إلى خلف، ورجع على عقبيه ورجع القهقرى، والسبب فيه أن الأصل في الإنسان هو الجهل، ثم إذا ترقى وتكامل حصل له العلم. قال تعالى :﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنا بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْـاًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَ ﴾ (النحل : ٧٨) فإذا رجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى فكأنه رجع إلى أول مرة، فلهذا السبب يقال : فلان رد على عقبيه.
وأما قوله :﴿كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَـاطِينُ فِى الارْضِ﴾ فاعلم أنه تعالى وصف هذا الإنسان بثلاثة أنواع من الصفات :
الصفة الأولى : قوله :﴿اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَـاطِينُ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ حمزة بألف ممالة على التذكير والباقون بالتاء، لأن الجمع يصلح أن يذكر على معنى الجمع، ويصلح أن يؤنث على معنى الجماعة.
المسألة الثانية : اختلفوا في اشتقاق ﴿كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ﴾ على قولين :
القول الأول : أنه مشتق من الهوى في الأرض، وهو النزول من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة في قعر الأرض، فشبه الله تعالى حال هذا الضال به وهو قوله :﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ﴾ ولا شك أن حال هذا الإنسان عند هويه من المكان العالي إلى الوهدة العميقة المظلمة يكون في غاية الاضطراب والضعف والدهشة.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٢٧
والقول الثاني : أنه مشتق من اتباع الهوى والميل، فإن من كان كذلك فإنه ربما بلغ / النهاية في الحيرة، والقول الأول أولى، لأنه أكمل في الدلالة على الدهشة والضعف.
الصفة الثانية : قوله :﴿حَيْرَانَ﴾ قال الأصمعي : يقال حار يحار حيرة وحيراً، وزاد الفراء حيراناً وحيرورة، ومعنى الحيرة هي التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه. ومنه يقال : الماء يتحير في الغيم أي يتردد، وتحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء. واعلم أن هذا المثل في غاية الحسن، وذلك لأن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه، لأن الحجر حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة، وذلك يوجب كمال التردد والتحير، وأيضاً فعند نزوله لا يعرف أنه يسقط على موضع يزداد بلاؤه بسبب سقوطه عليه أو يقل، فإذا اعتبرت مجموع هذه الأحوال علمت أنك لا تجد مثالاً للمتحير المتردد الخائف أحسن ولا أكمل من هذا المثال.
الصفة الثالثة : قوله تعالى :﴿لَه ا أَصْحَـابٌ يَدْعُونَه ا إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ﴾ قالوا : نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه كان يدعو أباه إلى الكفر وأبوه كان يدعوه إلى الإيمان ويأمره بأن يرجع من طريق الجهالة إلى الهداية ومن ظلمة الكفر إلى نور الإيمان. وقيل : المراد أن لذلك الكافر الضال أصحاباً يدعونه إلى ذلك الضلال ويسمونه بأنه هو الهدى وهذا بعيد. والقول الصحيح هو الأول.
ثم قال تعالى :﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ يعني هو الهدى الكامل النافع الشريف كما إذا قلت علم زيد هو العلم وملك عمرو هو الملك كان معناه ما ذكرناه من تقرير أمر الكمال والشرف.
ثم قال تعالى :﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ واعلم أن قوله :﴿إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ دخل فيه جميع أقسام المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات، وتقرير الكلام أن كل ما تعلق أمر الله به، فإما أن يكون من باب الأفعال، وإما أن يكون من باب التروك.


الصفحة التالية
Icon