أما القسم الأول : فإما أن يكون من باب أعمال القلوب وإما أن يكون من باب أفعال الجوارح، ورئيس أعمال القلوب الإيمان بالله والإسلام له، ورئيس أعمال الجوارح الصلاة، وأما الذي يكون من باب التروك فهو التقوى وهو عبارة عن الاتقاء عن كل ما لا ينبغي، والله سبحانه لما بين أولاً أن الهدى النافع هو هدى الله، أردف ذلك الكلام الكلي بذكر أشرف أقسامه على الترتيب وهو الإسلام الذي هو رئيس الطاعات الروحانية، والصلاة التي هي رئيسة الطاعات الجسمانية، والتقوى التي هي رئيسة لباب التروك والاحتراز عن كل ما لا ينبغي، ثم بين منافع هذه الأعمال فقال :﴿وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ يعني أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر والبعث والقيامة.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٢٧
فإن قيل : كيف حسن عطف قوله :﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَواةَ﴾ على قوله :﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ ؟
قلنا : ذكر الزجاج فيه وجهين : الأول : أن يكون التقدير، وأمرنا فقيل لنا أسلموا لرب العالمين وأقيموا الصلاة.
فإن قيل : هب أن المراد ما ذكرتم، لكن ما الحكمة في العدول عن هذا اللفظ الظاهر والتركيب الموافق للعقل إلى ذلك اللفظ الذي لا يهتدي العقل إلى معناه إلا بالتأويل ؟
قلنا : وذلك لأن الكافر ما دام يبقى على كفره، كان كالغائب الأجنبي فلا جرم يخاطب بخطاب الغائبين، فيقال له :﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ وإذا أسلم وآمن ودخل في الإيمان صار كالقريب الحاضر، فلا جرم يخاطب بخطاب الحاضرين، ويقال له :﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَواةَ وَاتَّقُوه وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ فالمقصود من ذكر هذين النوعين من الخطاب التنبيه على الفرق بين حالتي الكفر والإيمان، وتقريره أن الكافر بعيد غائب والمؤمن قريب حاضر. والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٢٧
٢٩
اعلم أنه تعالى لما بين في الآيات المتقدمة فساد طريقة عبدة الأصنام، ذكر ههنا ما يدل على أنه لا معبود إلا الله وحده وهو هذه الآية، وذكر فيها أنواعاً كثيرة من الدلائل. أولها : قوله ﴿وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ ﴾ أما كونه خالقاً للسموات والأرض، فقد شرحنا في قوله :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ وأما أنه تعالى خلقهما بالحق فهو نظير لقوله تعالى في سورة آل عمران ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا﴾ (آل عمران : ١٩١) وقوله :﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ﴾ (الأنبياء : ١٦) ﴿مَا خَلَقْنَـاهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ﴾ (الدخان : ٣٩) وفيه قولان.
القول الأول : وهو قول أهل السنة أنه تعالى مالك لجميع المحدثات مالك لكل الكائنات وتصرف للمالك في ملكه حسن وصواب على الإطلاق، فكان ذلك التصرف حسناً على الإطلاق وحقاً على الإطلاق.
والقول الثاني : وهو قول المعتزلة أن معنى كونه حقاً أنه واقع على وفق مصالح المكلفين مطابق لمنافعهم. قال القاضي : ويدخل في هذه الآية أنه خلق المكلف أولاً حتى يمكنه الانتفاع بخلق السموات والأرض، ولحكماء الإسلام في هذا الباب طريقة أخرى، وهي أنه يقال : أودع في هذه الأجرام العظيمة قوى وخواص يصدر بسببها عنها آثار وحركات مطابقة لمصالح هذا العالم ومنافعه. وثانيها : قوله :﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ ﴾ في تأويل هذه الآية قولان. الأول : التقدير وهو الذي خلق السموات والأرض وخلق يوم يقول كن فيكون، والمراد من هذا اليوم يوم القيامة، والمعنى أنه تعالى هو الخالق للدنيا ولكل ما فيها من الأفلاك والطبائع والعناصر والخالق ليوم القيامة والبعث ولرد الأرواح إلى الأجساد على سبيل كن فيكون.
والوجه الثاني : في التأويل أن نقول قوله :﴿الْحَقِّ ﴾ مبتدأ و﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ ﴾ ظرف دال على الخبر، والتقدير : قوله :﴿الْحَقِّ ﴾ واقع ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ ﴾ كقولك يوم الجمعة القتال، ومعناه القتال واقع يوم الجمعة. والمراد من كون قوله حقاً في ذلك اليوم أنه سبحانه لا يقضي إلا بالحق والصدق، لأن أقضيته منزهة عن الجور والعبث. وثالثها : قوله :﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ ﴾ فقوله :﴿وَلَهُ الْمُلْكُ﴾ يفيد الحصر، والمعنى : أنه لا ملك في يوم ينفخ في الصور إلا الحق سبحانه وتعالى، فالمراد بالكلام الثاني تقريراً لحكم الحق المبرأ عن العبث والباطل، والمراد بهذا الكلام تقرير القدرة التامة الكاملة التي لا دافع لها ولا معارض.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٢٩
فإن قال قائل : قول الله حق في كل وقت، وقدرته كاملة في كل وقت، فما الفائدة في تخصيص هذا اليوم بهذين الوصفين ؟


الصفحة التالية
Icon