الوجه الأول : لعل والد إبراهيم كان مسمى بهذين الاسمين، فيحتمل أن يقال إن اسمه الأصلي كان آزر وجعل تارح لقباله، فاشتهر هذا اللقب وخفي الاسم. فالله تعالى ذكره بالاسم، / ويحتمل أن يكون بالعكس، وهو أن تارح كان اسماً أصلياً وآزر كان لقباً غالباً. فذكره الله تعالى بهذا اللقب الغالب.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٤
الوجه الثاني : أن يكون لفظة آزر صفة مخصوصة في لغتم، فقيل إن آزر اسم ذم في لغتهم وهو المخطىء كأنه قيل، وإذ قال إبراهيم لأبيه المخطىء كأنه عابه بزيغه وكفره وانحرافه عن الحق، وقيل آزر هو الشيخ الهرم بالخوارزمية، وهو أيضاً فارسية أصلية.
واعلم أن هذين الوجهين إنما يجوز المصير إليهما عند من يقول بجواز اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة من غير لغة العرب.
والوجه الثالث : أن آزر كان اسم صنم يعبده والد إبراهيم، وإنما سماه الله بهذا الاسم لوجهين : أحدهما : أنه جعل نفسه مختصاً بعبادته ومن بالغ في محبة أحد فقد يجعل اسم المحبوب اسماً للمحب. قال الله تعالى :﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ ﴾ (الإسراء : ٧١) وثانيها : أن يكون المراد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
الوجه الرابع : أن والد إبراهيم عليه السلام كان تارح وآزر كان عماله/ والعم قد يطلق عليه اسم الأب، كما حكى الله تعالى عن أولاد يعقوب أنهم قالوا :﴿نَعْبُدُ إِلَـاهَكَ وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاه مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ﴾ (البقرة : ١٣٣) ومعلوم أن إسمعيل كان عماً ليعقوب. وقد أطلقوا عليه لفظ الأب فكذا ههنا. واعلم أن هذه التكلفات إنما يجب المصير إليها لو دل دليل باهر على أن والد إبراهيم ما كان اسمه آزر وهذا الدليل لم يوجد البتة، فأي حاجة تحملنا على هذه التأويلات، والدليل القوي على صحة أن الأمر على ما يدل عليه ظاهر هذه الآية، أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا في غاية الحرص على تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام وإظهار بغضه، فلو كان هذا النسب كذباً لامتنع في العادة سكوتهم عن تكذيبه وحيث لم يكذبوه علمنا أن هذا النسب صحيح والله أعلم.
المسألة الرابعة : قالت الشيعة : إن أحداً من آباء الرسول عليه الصلاة والسلام وأجداده ما كان كافراً وأنكروا أن يقال أن والد إبراهيم كان كافراً وذكروا أن آزر كان عم إبراهيم عليه السلام. وما كان والداً له واحتجوا على قولهم بوجوه :
الحجة الأولى : أن آباء الأنبياء ما كانوا كفاراً ويدل عليه وجوه : منها قوله تعالى :﴿الَّذِى يَرَاـاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـاجِدِينَ﴾ (الشعراء : ٢١٨/ ٢١٩).
قيل معناه : إنه كان ينقل روحه من ساجد إلى ساجد وبهذا التقدير : فالآية دالة على أن جميع آباء محمد عليه السلام كانوا مسلمين. وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم عليه السلام كان مسلماً.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٤
فإن قيل : قوله :﴿وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـاجِدِينَ﴾ يحتمل وجوهاً أخر : أحدها : إنه لما نسخ فرض / قيام الليل طاف الرسول صلى الله عليه وسلّم تلك الليلة على بيوت الصحابة لينظر ماذا يصنعون لشدة حرصه على ما يظهر منهم من الطاعات فوجدها كبيوت الزنانير لكثرة ما سمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتهليلهم. فالمراد من قوله :﴿وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـاجِدِينَ﴾ طوافه صلوات الله عليه تلك الليلة على الساجدين. وثانيها : المراد أنه عليه السلام كان يصلي بالجماعة فتقلبه في الساجدين معناه : كونه فيما بينهم ومختلطاً بهم حال القيام والركوع والسجود. وثالثها : أن يكون المراد أنه ما يخفى حالك على الله كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في الاشتغال بأمور الدين. ورابعها : المراد تقلب بصره فيمن يصلي خلفه، والدليل عليه قوله عليه السلام :"أتموا الركوع والسجود فإني أراكم من وراء ظهري" فهذه الوجوه الأربعة مما يحتملها ظاهر الآية، فسقط ما ذكرتم.
والجواب : لفظ الآية محتمل للكل، فليس حمل الآية على البعض أولى من حملها على الباقي. فوجب أن نحملها على الكل وحينئذ يحصل المقصود، ومما يدل أيضاً على أن أحداً من آباء محمد عليه السلام ما كان من المشركين قوله عليه السلام :"لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات" وقال تعالى :﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ (التوبة : ٢٨) وذلك يوجب أن يقال : إن أحداً من أجداده ما كان من المشركين.
إذا ثبت هذا فنقول : ثبت بما ذكرنا أن والد إبراهيم عليه السلام ما كان مشركاً، وثبت أن آزر كان مشركاً. فوجب القطع بأن والد إبراهيم كان إنساناً آخر غير آزر.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٤


الصفحة التالية
Icon