الحجة الثانية : على أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام. أن هذه الآية دالة على أن إبراهيم عليه السلام شافه آزر بالغلظة والجفاء. ومشافهة الأب بالجفاء لا تجوز، وهذا يدل على أن آزر ما كان والد إبراهيم، إنما قلنا : إن إبراهيم شافه آزر بالغلظة والجفاء في هذه الآية لوجهين : الأول : أنه قرىء ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لابِيهِ ءَازَرَ﴾ بضم آزر وهذا يكون محمولاً على النداء ونداء الأب بالاسم الأصلي من أعظم أنواع الجفاء. الثاني : أنه قال لآزر :﴿إِنِّى أَرَاـاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ﴾ (الأنعام : ٧٤) وهذا من أعظم أنواع الجفاء والإيذاء. فثبت أنه عليه السلام شافه آزر بالجفاء، وإنما قلنا : أن مشافهة الأب بالجفاء لا تجوز لوجوه : الأول : قوله تعالى :﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا ﴾ (الإسراء : ٢٣) وهذا عام في حق الأب الكافر والمسلم، قال تعالى :﴿فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا﴾ (الإسراء : ٢٣) وهذا أيضاً عام. والثاني : أنه تعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى فرعون أمره بالرفق معه فقال ﴿فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ (طه : ٤٤) والسبب فيه أن يصير ذلك رعاية لحق تربية فرعون. فههنا الوالد أولى بالرفق. الثالث : أن الدعوة مع الرفق أكثر تأثيراً في القلب، أما التغليظ فإنه يوجب / التنفير والبعد عن القبول. ولهذا المعنى قال تعالى لمحمد عليه السلام :﴿وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ﴾ (النحل : ١٢٥) فكيف يليق بإبراهيم عليه السلام مثل هذه الخشونة مع أبيه في الدعوة ؟
الرابع : أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام الحلم، فقال :﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ﴾ وكيف يليق بالرجل الحليم مثل هذا الجفاء مع الآب ؟
فثبت بهذه الوجوه أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام بل كان عماً له، فأما والده فهو تارح والعم قد يسمى بالأب على ما ذكرنا أن أولاد يعقوب سموا إسمعيل بكونه أباً ليعقوب مع أنه كان عماً له. وقال عليه السلام :"ردوا علي أبي" يعني العم العباس وأيضاً يحتمل أن آزر كان والد أم إبراهيم عليه السلام وهذا قد يقال له الأب. والدليل عليه قوله تعالى :
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٤
﴿وَمِن ذُرِّيَّتِه دَاوُادَ وَسُلَيْمَـانَ﴾ (الأنعام : ٨٤) إلى قوله :﴿عِيسَى﴾ فجعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أن إبراهيم عليه السلام كان جداً لعيسى من قبل الأم. وأما أصحابنا فقد زعموا أن والد رسول الله كان كافراً وذكروا أن نص الكتاب في هذه الآية تدل على أن آزر كان كافراً وكان والد إبراهيم عليه السلام. وأيضاً قوله تعالى :﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ﴾ إلى قوله :﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَه ا أَنَّه عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْه ﴾ (التوبة : ١١٤) وذلك يدل على قولنا، وأما قوله ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـاجِدِينَ﴾ قلنا : قد بينا أن هذه الآية تحتمل سائر الوجوه قوله تحمل هذه الآية على الكل، قلنا هذا محال لأن حمل اللفظ المشترك على جميع معانيه لا يجوز، وأيضاً حمل اللفظ على حقيقته ومجازه معاً لا يجوز، وأما قوله عليه السلام :"لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات" فذلك محمول على أنه ما وقع في نسبه ما كان سفاحاً، أما قوله التغليظ مع الأب لا يليق بإبراهيم عليه السلام. قلنا : لعله أصر على كفره فلأجل الإصرار استحق ذلك التغليط. والله أعلم.
المسألة الخامسة : قرىء ﴿ءَازَرَ﴾ بالنصب وهو عطف بيان لقوله :﴿لابِيهِ﴾ وبالضم على النداء، وسألني واحد فقال : قرىء ﴿ءَازَرَ﴾ بهاتين القراءتين، وأما قوله :﴿وَقَالَ مُوسَى لاخِيهِ هَـارُونَ﴾ قرىء ﴿هَـارُونَ﴾ بالنصب وما قرىء البتة بالضم فما الفرق ؟
قلت القراءة بالضم محمولة على النداء والنداء بالاسم استخفاف بالمنادى. وذلك لائق بقصة إبراهيم عليه السلام لأنه كان مصراً على كفره فحسن أن يخاطب بالغلظة زجراً له عن ذلك القبيح، وأما قصة موسى عليه السلام فقد كان موسى عليه السلام يستخلف هرون على قومه فما كان الاستخفاف لائقاً بذلك الموضع، فلا جرم ما كانت القراءة بالضم جائزة.
المسألة السادسة : اختلف الناس في تفسير لفظ "الإله" والأصح أنه هو المعبود، وهذه الآية تدل على هذا القول لأنهم ما أثبتوا للأصنام إلا كونها معبودة، ولأجل هذا قال إبراهيم لأبيه :﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاه مُ﴾ وذلك يدل على أن تفسير لفظ "الإله" هو المعبود.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٤


الصفحة التالية
Icon