المسألة السابعة : اشتمل كلام إبراهيم عليه السلام في هذه الآية على ذكر الحجة العقلية على فساد قول عبدة الأصنام من وجهين : الأول : أن قوله :﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاه مُ﴾ يدل على أنهم كانوا يقولون بكثرة الآلهة ؛ إلا أن القول بكثرة الآلهة باطل بالدليل العقلي الذي فهم من قوله تعالى :﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ والثاني : أن هذه الأصنام لو حصلت لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافياً، فلما لم يكن الواحد كافياً دل ذلك على أنها وإن كثرت فلا نفع فيها البتة.
المسألة الثامنة : احتج بعضهم بهذه الآية على أن وجوب معرفة الله تعالى ووجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع. قال لأن إبراهيم عليه السلام حكم عليهم بالضلال، ولولا الوجوب العقلي لما حكم عليهم بالضلال. لأن ذلك المذهب كان متقدماً على دعوة إبراهيم. ولقائل أن يقول : إنه كان ضلالاً بحكم شرع الأنبياء الذين كانوا متقدمين على إبراهيم عليه السلام.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٤
٣٨
المسألة الأولى :"الكاف" في كذلك للتشبيه، وذلك إشارة إلى غائب جرى ذكره والمذكور ههنا فيما قبل هو أنه عليه السلام استقبح عبادة الأصنام، وهو قوله :﴿إِنِّى أَرَاـاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ﴾ والمعنى : ومثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام نريه ملكوت السموات والأرض. وههنا دقيقة عقلية، وهي أن نور جلال الله تعالى لائح غير منقطع ولا زائل البتة، والأرواح البشرية لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب، وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى، فإذا كان الأمر كذلك فبقدر ما يزول ذلك الحجاب يحصل هذا التجلي فقول إبراهيم عليه السلام :﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاه مُ﴾ إشارة إلى تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى، لأن كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى، فلما زال ذلك الحجاب لا جرم تجلى له ملكوت السموات بالتمام، فقوله :﴿وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ﴾ معناه : وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نور تجلى جلال الله تعالى، فكان قوله :﴿وَكَذالِكَ﴾ منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول هذه الإراءة قد حصلت فيما تقدم من الزمان، فكان الأولى /أن يقال : وكذلك أرينا إبراهيم ملكوت السموات والأرض، فلم عدل عن هذه اللفظة إلى قوله ﴿وَكَذَالِكَ نُرِى ﴾.
قلنا : الجواب عنه من وجوه : الأول : أن يكون تقدير الآية، وكذلك كنا نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض، فيكون هذا على سبيل الحكاية عن الماضي. والمعنى أنه تعالى لما حكى عنه أنه شافه أباه الكلام الخشن تعصباً للدين الحق. فكأنه قيل : وكيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ العظيم في قوة الدين، فأجيب بأنا كنا نريه ملكوت السموات والأرض من وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٨
الوجه الثاني في الجواب : وهو أعلى وأشرف مما تقدم، وهو أنا نقول : إنه ليس المقصود من إراءة الله إبراهيم ملكوت السموات والأرض هو مجرد أن يرى إبراهيم هذا الملكوت، بل المقصود أن يراها فيتوسل بها إلى معرفة جلال الله تعالى وقدسه وعلوه وعظمته. ومعلوم أن مخلوقات الله وإن كانت متناهية في الذوات وفي الصفات، إلا أن جهات دلالاتها على الذوات والصفات غير متناهية. وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر ضياء الدين رحمه الله تعالى قال : سمعت الشيخ أبا القاسم الأنصاري يقول : سمعت إمام الحرمين يقول : معلومات الله تعالى غير متناهية، ومعلوماته في كل واحد من تلك المعلومات أيضاً غير متناهية، وذلك لأن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، ويمكن إنصافه بصفات لا نهاية لها على البدل، وكل تلك الأحوال التقديرية دالة على حكمة الله تعالى وقدرته أيضاً، وإذا كان الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ كذلك ؛ فكيف القول في كل ملكوت الله تعالى، فثبت أن دلالة ملك الله تعالى، وملكوته على نعوت جلاله وسمات عظمته وعزته غير متناهية، وحصول المعلومات التي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال، فإذن لا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلا بأن يحصل بعضها عقيب البعض لا إلى نهاية ولا إلى آخر في المستقبل، فلهذا السبب والله أعلم لم يقل، وكذلك أريناه ملكوت السموات والأرض، بل قال :﴿وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ وهذا هو المراد من قول المحققين السفر إلى الله له نهاية، وأما السفر في الله فإنه لا نهاية له والله أعلم.
المسألة الثالثة : هو الملك، و"التاء" للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت من الرهبة.


الصفحة التالية
Icon