واعلم أن في تفسيره هذه الإراءة قولين : الأول : أن الله أراه الملكوت بالعين، قالوا إن الله تعالى شق له السموات حتى رأى العرش والكرسي وإلى حيث ينتهي إليه فوقية العالم الجسماني، / وشق له الأرض إلى حيث ينتهي إلى السطح الآخر من العالم الجسماني، ورأى ما في السموات من العجائب والبدائع، ورأى ما في باطن الأرض من العجائب والبدائع. وعن ابن عباس أنه قال : لما أسرى بإبراهيم إلى السماء ورأى ما في السموات وما في الأرض فأبصر عبداً على فاحشة فدعا عليه وعلى آخر بالهلاك، فقال الله تعالى له : كف عن عبادي فهم بين حالين إما أن أجعل منهم ذرية طيبة أو يتوبون فأغفر لهم أو النار من ورائهم، وطعن القاضي في هذه الرواية من وجوه : الأول : أن أهل السماء هم الملائكة المقربون وهم لا يعصون الله، فلا يليق أن يقال : إنه لما رفع إلى السماء أبصر عبداً على فاحشة. الثاني : أن الأنبياء لا يدعون بهلاك المذنب إلا عن أمر الله تعالى، وإذا أذن الله تعالى فيه لم يجز أن يمنعه من إجابة دعائه. الثالث : أن ذلك الدعاء إما أن يكون صواباً أو خطأً فإن كان صواباً فلم رده في المرة الثانية، وإن كان خطأً فلم قبله في المرة الأولى. ثم قال : وأخبار الآحاد إذا وردت على خلاف دلائل العقول وجب التوقف فيها.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٨
والقول الثاني : أن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة والعقل، لا بالبصر الظاهر والحس الظاهر. واحتج القائلون بهذا القول بوجوه :
الحجة الأولى : أن ملكوت السموات عبارة عن ملك السماء، والملك عبارة عن القدرة، وقدرة الله لا ترى، وإنما تعرف بالعقل، وهذا كلام قاطع، إلا أن يقال المراد بملكوت السموات والأرض نفس السموات والأرض، إلا أن على هذا التقدير يضيع لفظ الملكوت ولا يحصل منه فائدة.
والحجة الثانية : أنه تعالى ذكر هذه الإراءة في أول الآية على سبيل الإجمال وهو قوله :﴿مُّبِينٍ * وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ﴾ ثم فسرها بعد ذلك بقوله :﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا ﴾ (الأنعام : ٧٦) فجرى ذكر هذا الاستدلال كالشرح والتفسير لتلك الإراءة فوجب أن يقال إن تلك الإراءة كانت عبارة عن هذا الاستدلال.
والحجة الثالثة : أنه تعالى قال في آخر الآية :﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِه ﴾ والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه لأنهم كانوا غائبين عنها وكانوا يكذبون إبراهيم فيها وما كان يجوز لهم تصديق إبراهيم في تلك الدعوى إلا بدليل منفصل ومعجزة باهرة، وإنما كانت الحجة التي أوردها إبراهيم على قومه في الاستدلال بالنجوم من الطريق الذي نطق به القرآن. فإن تلك الأدلة كانت ظاهرة لهم كما أنها كانت ظاهرة لإبراهيم.
والحجة الرابعة : أن إراءة جميع العالم تفيد العلم الضروري بأن للعالم إلهاً قادراً على كل / الممكنات. ومثل هذه الحالة لا يحصل للإنسان بسببها استحقاق المدح والتعظيم. ألا ترى أن الكفار في الآخرة يعرفون الله تعالى بالضرورة وليس لهم في تلك المعرفة مدح ولا ثواب. وأما الاستدلال بصفات المخلوقات على وجود الصانع وقدرته وحكمته فذاك هو الذي يفيد المدح والتعظيم.
والحجة الخامسة : أنه تعالى كما قال في حق إبراهيم عليه السلام ﴿وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ فكذلك قال في حق هذه الأمة :﴿سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ﴾ (فصلت : ٥٣) فكما كانت هذه الإراءة بالبصيرة الباطنة لا بالبصر الظاهر فكذلك في حق إبراهيم لا يبعد أن يكون الأمر كذلك.
الحجة السادسة : أنه عليه السلام لما تمم الاستدلال بالنجم والقمر والشمس قال بعده :﴿إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ (الأنعام : ٧٩) فحكم على السموات والأرض بكونها مخلوقة لأجل الدليل الذي ذكره في النجم والقمر والشمس. وذلك الدليل لو لم يكن عاماً في كل السموات والأرض لكان الحكم العام بناء على دليل خاص وأنه خطأ، فثبت أن ذلك الدليل كان عاماً فكان ذكر النجم والقمر والشمس كالمثال لإراءة الملكوت. فوجب أن يكون المراد من إراءة الملكوت تعريف كيفية دلالتها بحسب تغيرها وإمكانها وحدوثها على وجود الإله العالم القادر الحكيم فتكون هذه الإراءة بالقلب لا بالعين.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٨
الحجة السابعة : أن اليقين عبارة عن العلم المستفاد بالتأمل إذا كان مسبوقاً بالشك وقوله تعالى :﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ كالغرض من تلك الإراءة فيصير تقدير الآية نرى إبراهيم ملكوت السوات والأرض لأجل أن يصير من الموقنين. فلما كان اليقين هو العلم المستفاد من الدليل، وجب أن تكون تلك الإراءة عبارة عن الاستدلال.


الصفحة التالية
Icon