الحجة الثامنة : أن جميع مخلوقات الله تعالى دالة على وجود الصانع وقدرته باعتبار واحد وهو أنها محدثة ممكنة وكل محدث ممكن فهو محتاج إلى الصانع. وإذا عرف الإنسان هذا الوجه الواحد فقد كفاه ذلك في الاستدلال عى الصانع وكأنه بمعرفة هاتين المقدمتين قد طالع جميع الملكوت بعين عقله وسمع بأذن عقله شهادتها بالاحتياج والافتقار وهذه الرؤية رؤية باقية غير زائلة البتة. ثم إنها غير شاملة عن الله تعالى بل هي شاغلة للقلب والروح بالله. أما رؤية العين فالإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال. ألا ترى أن من نظر إلى صحيفة مكتوبة فإنه لا يرى من تلك الصحيفة رؤية كاملة تامة إلا حرفاً واحداً فإن حدق نظره إلى حرف آخر وشغل بصره به صار محروماً عن إدراك الحرف الأول، أو عن إبصاره. فثبت أن رؤية الأشياء / الكثيرة دفعة واحدة غير ممكنة. وبتقدير أن تكون ممكنة هي غير باقية وبتقدير أن تكون باقية هي شاغلة عن الله تعالى. ألا ترى أنه تعالى مدح محمداً عليه الصلاة والسلام في ترك هذه الرؤية فقال :﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ (النجم : ١٧) فثبت بجملة هذه الدلائل أن تلك الإراءة كانت إراءة بحسب بصيرة العقل، لا بحسب البصر الظاهر.
فإن قيل : فرؤية القلب على هذا التفسير حاصلة لجميع الموحدين فأي فضيلة تحصل لإبراهيم بسببها.
قلنا : جميع الموحدين وإن كانوا يعرفون أصل هذا الدليل إلا أن الاطلاع على آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذا العالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وأحوالها مما لا يحصل إلا للأكابر من الأنبياء عليهم السلام. ولهذا المعنى كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه :"اللهم أرنا الأشياء كما هي" فزال هذا الإشكال. والله أعلم.
المسألة الرابعة : اختلفوا في "الواو" في قوله :﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ وذكروا فيه وجوهاً : الأول : الواو زائدة والتقدير : نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض ليستدل بها ليكون من الموقنين. الثاني : أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً لبيان علة الإراءة والتقدير وليكون من الموقنين نريه ملكوت السموات والأرض. الثالث : أن الإراءة قد تحصل وتصير سبباً لمزيد الضلال كما في حق فرعون قال تعالى :﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَـاهُ ءَايَـاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ﴾ (طه : ٥٦) وقد تصير سبباً لمزيد الهداية واليقين. فلما احتملت الإراءة هذين الاحتمالين قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام : إنا أريناه هذه الآيات ليراها ولأجل أن يكون من الموقنين لا من الجاحدين والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٨
المسألة الخامسة : اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقيناً لأن علمه غير مسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل. واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سبباً لحصول اليقين وذلك لوجوه : الأول : أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة فلا تزال القوة تتزايد حتى ننتهي إلى الجزم. الثاني : أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد جار مجرى تكرار الدرس الواحد، فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب، فكذا ههنا. الثالث : أن القلب عند الاستدلال كان مظلماً جداً فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب، فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة، فإذا حصل الاستدلال / الثاني امتزج نوره بالحالة الأولى، فيصير الإشراق واللمعان أتم. وكما أن الشمس إذا قربت من المشرق ظهر نورها في أول الأمر وهو الصبح. فكذلك الاستدلال الأول يكون كالصبح، ثم كما أن الصبح لا يزال يتزايد بسبب تزايد قرب الشمس من سمت الرأس، فإذا وصلت إلى سمت الرأس حصل النور التام، فكذلك العبد كلما كان تدبره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى. إلا أن الفرق بين شمس العلم وبين شمس العالم أن شمس العالم الجسماني لها في الارتقاء والتصاعد حد معين لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود، وأما شمس المعرفة والعقل والتوحيد، فلا نهاية لتصاعدها ولا غاية لازديادها فقوله :﴿وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات، وقوله :﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ إشارة إلى درجات أنوار التجلي وشروق شمس المعرفة والتوحيد. والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٨
٤٧
في هذه الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon