المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" :﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ﴾ عطف على قوله :﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ لابِيهِ ءَازَرَ﴾ وقوله :﴿وَكَذَالِكَ نُرِى ﴾ جملة وقعت اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه.
المسألة الثانية : قال الواحدي رحمه الله : يقال جن عليه الليل وأجنه الليل، ويقال : لكل / ما سترته جن وأجن، ويقال أيضاً جنه الليل، ولكن الاختيار جن عليه الليل، وأجنه الليل. هذا قول جميع أهل اللغة، ومعنى ﴿جَنَّ﴾ ستر ومنه الجنة والجن والجنون والجان والجنين والمجن والجنن والمجن، وهو المقبور. والمجنة كل هذا يعود أصله إلى الستر والاستتار، وقال بعض النحويين :﴿جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ﴾ إذا أظلم عليه الليل. ولهذا دخلت "على" عليه كما تقول في أظلم. فأما جنه فستره من غير تضمين معنى ﴿أَظْلَمَ﴾.
المسألة الثالثة : اعلم أن أكثر المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه، فأمر ذلك الملك بذبح كل غلام يولد، فحبلت أم إبراهيم به وماأظهرت حبلها للناس، فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر، فجاء جبريل عليه السلام ووضع أصبعه في فمه فمصه فخرج منه رزقه وكان يتعهده جبريل عليه السلام، فكانت الأم تأتيه أحياناً وترضعه وبقي على هذه الصفة حتى كبر وعقل وعرف أن له رباً، فسأل الأم فقال لها : من ربي ؟
فقالت أنا، فقال : ومن ربك ؟
قالت أبوك، فقال للأب : ومن ربك ؟
فقال : ملك البلد. فعرف إبراهيم عليه السلام جهلهما بربهما فنظر من باب ذلك الغار ليرى شيئاً يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي هو أضوأ النجوم في السماء. فقال : هذا ربي إلى آخر القصة. ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فمنهم من قال : إن هذا كان بعد البلوغ وجريان قلم التكليف عليه، ومنهم من قال : إن هذا كان قبل البلوغ. واتفق أكثر المحققين على فساد القول الأول واحتجوا عليه بوجوه :
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٤٧
الحجة الأولى : أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر غير جائز بالإجماع على الأنبياء.
الحجة الثانية : أن إبراهيم عليه السلام كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة بالدليل. والدليل على صحة ما ذكرناه أنه تعالى أخبر عنه أنه قال قبل هذه الواقعة لأبيه آزر :﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لابِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءَالِهَةًا إِنِّى ﴾ (الأنعام : ٧٤).
الحجة الثالثة : أنه تعالى حكى عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالرفق حيث قال :﴿لابِيهِ يَـا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا﴾ (مريم : ٤٢) وحكى في هذا الموضع أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالكلام الخشن واللفظ الموحش. ومن المعلوم أن من دعا غيره إلى الله تعالى فإنه يقدم الرفق على العنف واللين على الغلظ ولا يخوض في التعنيف والتغليظ إلا بعد المدة المديدة واليأس التام. فدل هذا على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه إلى التوحيد / مراراً وأطواراً، ولا شك أنه إنما اشتغل بدعوة أبيه بعد فراغه من مهم نفسه. فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن عرف الله بمدة.
الحجة الرابعة : أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن أراه الله ملكوت السموات والأرض حتى رأى من فوق العرش والكرسي وما تحتهما إلى ما تحت الثرى، ومن كان منصبه في الدين كذلك، وعلمه بالله كذلك، كيف يليق به أن يعتقد إلهية الكواكب ؟
الحجة الخامسة : أن دلائل الحدوث في الأفلاك ظاهرة من خمسة عشر وجهاً وأكثر ومع هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقل العقلاء نصيباً من العقل والفهم أن يقول بربوبية الكواكب فضلاً عن أعقل العقلاء وأعلم العلماء ؟
الحجة السادسة : أنه تعالى قال في صفة إبراهيم عليه السلام :﴿إِذْ جَآءَ رَبَّه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الصافات : ٨٤) وأقل مراتب القلب السليم أن يكون سليماً عن الكفر، وأيضاً مدحه فقال :﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَه مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَـالِمِينَ﴾ (الأنبياء : ٥١) أي آتيناه رشده من قبل من أول زمان الفكرة. وقوله :﴿وَكُنَّا بِه عَـالِمِينَ﴾ أي بطهارته وكماله ونظيره قوله تعالى :﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه ﴾ (الأنعام : ١٢٤).
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٤٧
الحجة السابعة : قوله :﴿وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ أي وليكون بسبب تلك الإراءة من الموقنين.
ثم قال بعده :﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ﴾ والفاء تقتضي الترتيب، فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن صار إبراهيم من الموقنين العارفين بربه.


الصفحة التالية
Icon