المسألة الثانية : قرأ نافع وابن عامر خفيفة النون على حذف أحد النونين والباقون على التشديد على الإدغام. وأما قوله :﴿وَقَدْ هَدَاـانِ ﴾ قرأ نافع وابن عامر ﴿هَدَاـانِى﴾ بإثبات الياء على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف.
المسألة الثالثة : أن إبراهيم عليه السلام حاجهم في الله وهو قوله :﴿لا أُحِبُّ الافِلِينَ﴾ والقوم أيضاً حاجوه في الله، وهو قوله تعالى خبراً عنهم :﴿وَحَآجَّه قَوْمُه ا قَالَ أَتُحَـا جُّوانِّى فِى اللَّهِ﴾ فحصل لنا من هذه الآية أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للمدح العظيم والثناء البالغ/ وهي المحاجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام، وذلك المدح والثناء هو قوله تعالى :﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِه ﴾ وتارة تكون موجبة للذم وهو قوله :﴿قَالَ أَتُحَـا جُّوانِّى فِى اللَّهِ﴾ ولا فرق بين هذين البابين إلا أن المحاجة في تقرير الدين الحق توجب أعظم أنواح المدح والثناء، والمحاجة في تقرير الدين الباطل توجب أعظم أنواع الذم والزجر.
وإذا ثبت هذا الأصل صار هذا قانوناً معتبراً، فكل موضع جاء في القرآن والأخبار يدل على تهجين أمر المحاجة والمناظرة فهو محمول على تقرير الدين الباطل، وكل موضع جاء يدل على مدحه فهو محمول على تقرير الدين الحق والمذهب الصدق. والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٤٩
٤٩
اعلم أن هذا من بقية الجواب عن الكلام الأول، والتقدير : وكيف أخاف الأصنام التي لا قدرة لها على النفع والضر، وأنتم لا تخافون من الشرك الذي هو أعظم الذنوب. وقوله :﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِه عَلَيْكُمْ سُلْطَـانًا ﴾ فيه وجهان : الأول : أن قوله :﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِه عَلَيْكُمْ سُلْطَـانًا ﴾ كناية عن امتناع وجود الحجة والسلطان في مثل هذه القصة. ونظيره قوله تعالى :﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ لا بُرْهَـانَ لَه بِه ﴾ (المؤمنون : ١١٧) والمراد منه امتناع حصول البرهان فيه، والثاني : أنه لا يمتنع عقلاً أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء والصلاة فقوله :﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِه سُلْطَـانًا ﴾ معناه : عدم ورود الأمر به. وحاصل هذا الكلام : مالكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف ؟
ولم يقل : فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم ؟
احترازاً من تزكية نفسه فعدل عنه إلى قوله :﴿فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ﴾ يعني فريقي المشركين والموحدين. ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله :﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَـانَهُم بِظُلْمٍ﴾ وهذا من تمام كلام إبراهيم في المحاجة، والمعنى : أن الذين حصل لهم الأمن المطلق هم الذين يكونون مستجمعين لهذن الوصفين : أولهما : الإيمان وهو كمال القوة النظرية. وثانيهما :﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَـانَهُم بِظُلْمٍ﴾ وهو كمال القوة العملية.
ثم قال :﴿ أولئك لَهُمُ الامْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ اعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية من وجه والمعتزلة يتمسكون بها من وجه آخر. أما وجه تمسك أصحابنا فهو أن نقول إنه تعالى شرط في الإيمان الموجب للأمن عدم الظلم، ولو كان ترك الظلم أحد أجزاء مسمى الإيمان لكان هذا التقييد عبثاً، فثبت أن الفاسق مؤمن وبطل به قول المعتزلة، وأما وجه تمسك المعتزلة بها فهو أنه تعالى شرط في حصول الأمن حصول الأمرين، الإيمان وعدم الظلم، فوجب أن لا يحصل الأمن للفاسق وذلك يوجب حصول الوعيد له.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٤٩
وأجاب أصحابنا عنه من وجهين :
الوجه الأول : أن قوله :﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَـانَهُم بِظُلْمٍ﴾ المراد من الظلم الشرك، لقوله تعالى حكاية عن لقمان إذ قال لابنه :﴿يَعِظُه يَـابُنَىَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان : ١٣) فالمراد ههنا الذين آمنوا بالله ولم يثبتوا لله شريكاً في المعبودية.
والدليل على أن هذا هو المراد أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات، فوجب حمل الظلم ههنا على ذلك.
الوجه الثاني : في الجواب : أن وعيد الفاسق من أهل الصلاة يحتمل أن يعذبه الله، ويحتمل أن يعفو عنه، وعلى كلا التقديرين : فالأمن زائل والخوف حاصل، فلم يلزم من عدم الأمن القطع بحصول العذاب ؟
والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٤٩
٥١
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿وَتِلْكَ﴾ إشارة إلى كلام تقدم وفيه وجوه : الأول : أنه إشارة إلى قوله :﴿لا أُحِبُّ الافِلِينَ﴾ والثاني : أنه إشارة إلى أن القوم قالوا له : أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لأجل أنك شتمتهم. فقال لهم : أفلا تخافون أنتم حيث أقدمتهم على الشرك بالله وسويتم في العبادة بين خالق العالم ومدبره وبين الخشب المنحوت والصنم المعمول ؟
والثالث : أن المراد هو الكل.


الصفحة التالية
Icon