إذا عرفت هذا فنقول : قوله :﴿وَتِلْكَ﴾ مبتدأ وقوله :﴿حُجَّتُنَآ﴾ خبره وقوله :﴿إِبْرَاهِيمَ عَلَى ﴾ صفة لذلك الخبر.
المسألة الثانية : قوله :﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـاهَآ إِبْرَاهِيمَ﴾ يدل على أن تلك الحجة إنما حصلت في عقل إبراهيم عليه السلام بإيتاء الله وبإظهاره تلك الحجة في عقله، وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى. ويتأكد هذا أيضاً بقوله :﴿نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ ﴾ فإن المراد أنه تعالى رفع درجات إبراهيم بسبب أنه تعالى آتاه تلك الحجة، ولو كان حصول العلم بتلك الحجة إنما كان من قبل إبراهيم لا من قبل الله تعالى لكان إبراهيم عليه السلام هو الذي رفع درجات نفسه / وحينئذ كان قوله :﴿نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ ﴾ باطلاً. فثبت أن هذا صريح قولنا في مسألة الهدى والضلال.
المسألة الثالثة : هذه الآية من أدل الدلائل على فساد قول الحشوية في الطعن في النظر وتقرير الحجة وذكر الدليل. لأنه تعالى أثبت لإبراهيم عليه السلام حصول الرفعة والفوز بالدرجات العالية، لأجل أنه ذكر الحجة في التوحيد وقررها وذب عنها وذلك يدل على أنه لا مرتبة بعد النبوة والرسالة أعلى وأشرف من هذه المرتبة.
المسألة الرابعة : قرأ عاصم وحمزة والكسائي ﴿دَرَجَـاتٌ﴾ بالتنوين من غير إضافة والباقون بالإضافة، فالقراءة الأولى معناها : نرفع من نشاء درجات كثيرة، فيكون "من" في موضع النصب. قال ابن مقسم : هذه القراءة أدل على تفضيل بعضهم على بعض في المنزلة والرفعة. وقال أبو عمرو : الإضافة تدل على الدرجة الواحدة وعلى الدرجات الكثيرة والتنوين لا يدل إلا على الدرجات الكثيرة.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥١
المسألة الخامسة : اختلفوا في تلك الدرجات. قيل : درجات أعماله في الآخرة، وقيل : تلك الحجج درجات رفيعة، لأنها توجب الثواب العظيم. وقيل : نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة، وفي الآخرة بالجنة والثواب. وقيل : نرفع درجات من نشاء بالعلم. واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن كمال السعادة في الصفات الروحانية وفي البعد عن الصفات الجسمانية.
والدليل عليه : أنه تعالى قال :﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِه ﴾.
ثم قال بعده :﴿نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ ﴾ وذلك يدل على أن الموجب لحصول هذه الرفعة هو إيتاء تلك الحجة، وهذا يقتضي أن وقوف النفس على حقيقة تلك الحجة وإطلاعها على إشراقها اقتضت ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني، إلى أعالي العالم الروحاني، وذلك يدل على أنه لا رفعة ولا سعادة إلا في الروحانيات. والله أعلم.
وأما معنى ﴿حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ فالمعنى أنه إنما يرفع درجات من يشاء بمقتضى الحكمة والعلم، لا بموجب الشهوة والمجازفة. فإن أفعال الله منزهة عن العبث والفساد والباطل.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥١
٥٤
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه أظهر حجة الله تعالى في التوحيد ونصرها وذب عنها عدد وجوه نعمه وإحسانه عليه. فأولها : قوله :﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـاهَآ إِبْرَاهِيمَ﴾ والمراد إنا نحن آتيناه تلك الحجة وهديناه إليها وأوقفنا عقله على حقيقتها. وذكر نفسه باللفظ الدال على العظمة وهو كناية الجمع على وفق ما يقوله عظماء الملوك. فعلنا، وقلنا، وذكرنا. ولما ذكر نفسه تعالى ههنا باللفظ الدال على العظمة وجب أن تكون تلك العظمة عظمة كاملة رفيعة شريفة، وذلك يدل على أن إيتاء الله تعالى إبراهيم عليه السلام تلك الحجة من أشرف النعم، ومن أجل مراتب العطايا والمواهب. وثانيها : أنه تعالى خصه بالرفعة والاتصال إلى الدرجات العالية الرفيعة. وهي قوله :﴿نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ ﴾ وثالثها : أنه جعله عزيزاً في الدنيا، وذلك لأنه تعالى جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله، ومن ذريته وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة، لأن من أعظم أنواع السرور علم المرء بأنه يكون من عقبه الأنبياء والملوك، والمقصود من هذه الآيات تعديد أنواع نعم الله على إبراهيم عليه السلام جزاء على قيامه بالذب عن دلائل التوحيد، فقال :﴿وَوَهَبْنَا لَه ا إِسْحَـاقَ﴾ لصلبه ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ بعده من إسحق.


الصفحة التالية
Icon