فإن قالوا : لم لم يذكر إسمعيل عليه السلام مع إسحق، بل أخر ذكره عنه بدرجات ؟
قلنا : لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحق ويعقوب. وأما إسمعيل فإنه / ما خرج من صلبه أحد من الأنبياء إلا محمد صلى الله عليه وسلّم، ولا يجوز ذكر محمد عليه الصلاة والسلام في هذا المقام، لأنه تعالى أمر محمداً عليه الصلاة والسلام أن يحتج على العرب في نفي الشرك بالله بأن إبراهيم لما ترك الشرك وأصر على التوحيد رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا، ومن النعم العظيمة في الدنيا أن آتاه الله أولاداً كانوا أنبياء وملوكاً، فإذا كان المحتج بهذه الحجة هو محمد عليه الصلاة والسلام امتنع أن يذكر نفسه في هذا المعرض، فلهذا السبب لم يذكر إسمعيل مع إسحق.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٤
وأما قوله :﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ﴾ فالمراد أنه سبحانه جعل إبراهيم في أشرف الأنساب، وذلك لأنه رزقه أولاداً مثل إسحق، ويعقوب. وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين مثل نوح. وإدريس، وشيث. فالمقصود بيان كرامة إبراهيم عليه السلام بحسب الأولاد وبحسب الآباء.
أما قوله :﴿وَمِن ذُرِّيَّتِه دَاوُادَ وَسُلَيْمَـانَ﴾ فقيل المراد ومن ذرية نوح، ويدل عليه وجوه : الأول : أن نوحاً أقرب المذكورين وعود الضمير إلى الأقرب واجب. الثاني : أنه تعالى ذكر في جملتهم لوطاً وهو كان ابن أخ إبراهيم وما كان من ذريته/ بل كان من ذرية نوح عليه السلام، وكان رسولاً في زمان إبراهيم. الثالث : أن ولد الإنسان لا يقال أنه ذريته، فعلى هذا إسمعيل عليه السلام ما كان من ذرية إبراهيم، بل هو من ذرية نوح عليه السلام. الرابع : قيل إن يونس عليه السلام ما كان من ذرية إبراهيم عليه السلام، وكان من ذريةنوح عليه السلام.
والقول الثاني : أن الضمير عائد إلى إبراهيم عليه السلام، والتقدير : ومن ذرية إبراهيم داود وسليمان. واحتج القائلون بهذا القول : بأن إبراهيم هو المقصود بالذكر في هذه الآيات وإنما ذكر الله تعالى نوحاً لأن كون إبراهيم عليه السلام من أولاده أحد موجبات رفعة إبراهيم.
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً أربعة من الأنبياء، وهم : نوح، وإبراهيم، وإسحق، ويعقوب. ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر من الأنبياء : داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهرون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسمعيل، واليسع، ويونس، ولوطاً، والمجموع ثمانية عشر.
فإن قيل : رعاية الترتيب واجبة، والترتيب إما أن يعتبر بحسب الفضل والدرجة وإما أن يعتبر بحسب الزمان والمدة، والترتيب بحسب هذين النوعين غير معتبر في هذه الآية فما السبب فيه ؟
قلنا : الحق أن حرف الواو لا يوجب الترتيب، وأحد الدلائل على صحة هذا المطلوب هذه الآية فإن حرف الواو حاصل ههنا مع أنه لا يفيد الترتيب البتة، لا بحسب الشرف ولا بحسب الزمان / وأقول عندي فيه وجه من وجوه الترتيب، وذلك لأنه تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الإكرام والفضل.
فمن المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق : الملك والسلطان والقدرة، والله تعالى قد أعطى داود وسليمان من هذا الباب نصيباً عظيماً.
والمرتبة الثانية : البلاء الشديد والمحنة العظيمة، وقد خص الله أيوب بهذه المرتبة والخاصية.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٤
والمرتبة الثالثة : من كان مستجمعاً لهاتين الحالتين، وهو يوسف عليه السلام، فإنه نال البلاء الشديد الكثير في أول الأمر، ثم وصل إلى الملك في آخر الأمر.
والمرتبة الرابعة : من فضائل الأنبياء عليهم السلام وخواصهم قوة المعجزات وكثرة البراهين والمهابة العظيمة والصولة الشديدة وتخصيص الله تعالى إياهم بالتقريب العظيم والتكريم التام، وذلك كان في حق موسى وهرون.
والمرتبة الخامسة : الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا، وترك مخالطة الخلق، وذلك كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، ولهذا السبب وصفهم الله بأنهم من الصالحين.
والمرتبة السادسة : الأنبياء الذين لم يبق لهم فيما بين الخلق أتباع وأشياع، وهم إسماعيل، واليسع، ويونس، ولوط. فإذا اعتبرنا هذا الوجه الذي راعيناه ظهر أن الترتيب حاصل في ذكر هؤلاء الأنبياء عليهم السلام بحسب هذا الوجه الذي شرحناه.
المسألة الثانية : قال تعالى :﴿وَوَهَبْنَا لَه ا إِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَا كُلا هَدَيْنَا ﴾ اختلفوا في أنه تعالى إلى ماذا هداهم ؟
وكذا الكلام في قوله :﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ﴾ وكذا قوله في آخر الآية :﴿ذَالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِه مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه ﴾.


الصفحة التالية
Icon