قال بعض المحققين : المراد من هذه الهداية الثواب العظيم، وهي الهداية إلى طريق الجنة، وذلك لأنه تعالى لما ذكر هذه الهداية قال بعدها :﴿وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ﴾ وذلك يدل على أن تلك الهداية كانت جزاء المحسنين على إحسانهم وجزاء المحسن على إحسانه لا يكون إلا الثواب، فثبت أن المراد من هذه الهداية هو الهداية إلى الجنة. فأما الإرشاد إلى الدين وتحصيل المعرفة في قلبه، فإنه لا يكون جزاء له على عمله، وأيضاً لا يبعد أن يقال : المراد من هذه الهداية هو الهداية إلى الدين والمعرفة، وإنما ذلك كان جزاء على الإحسان الصادر منهم/ لأنهم اجتهدوا في طلب الحق، فالله تعالى جازاهم على حسن طلبهم بإيصالهم إلى الحق، كما قال :﴿وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ﴾ (العنكبوت : ٦٩).
والقول الثالث : أن المراد من هذه الهداية : الإرشاد إلى النبوة والرسالة، لأن الهداية المخصوصة بالأنبياء ليست إلا ذلك.
فإن قالوا : لو كان الأمر كذلك لكان قوله :﴿وَهَـارُونَا وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ﴾ يقتضي أن تكون الرسالة جزاء على عمل، وذلك عندكم باطل.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٤
قلنا : يحمل قوله :﴿وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ﴾ على الجزاء الذي هو الثواب والكرامة، فيزول الإشكال. والله أعلم.
المسألة الثالثة : احتج القائلون بأن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة بقوله تعالى بعد ذكر هؤلاء عليهم السلام :﴿وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَـالَمِينَ﴾ وذلك لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى، فيدخل في لفظ العالم الملائكة، فقوله تعالى :﴿وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَـالَمِينَ﴾ يقتضي كونهم أفضل من كل العالمين. وذلك يقتضي كونهم أفضل من الملائكة، ومن الأحكام المستنبطة من هذه الآية : أن الأنبياء عليهم السلام يجب أن يكونوا أفضل من كل الأولياء، لأن عموم قوله تعالى :﴿وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَـالَمِينَ﴾ يوجب ذلك. قال بعضهم :﴿وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَـالَمِينَ﴾ معناه فضلناه على عالمي زمانهم. قال القاضي : ويمكن أن يقال المراد : وكلاًّ من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين. ثم الكلام بعد ذلك في أن أي الأنبياء أفضل من بعض، كلام واقع في نوع آخر لا تعلق به بالأول والله أعلم.
المسألة الرابعة : قرأ حمزة والكسائي بتشديد اللام وسكون الياء، والباقون ﴿إِسْمَـاعِيلَ وَالْيَسَعَ﴾ بلام واحدة. قال الزجاج : يقال فيه الليسع واليسع بتشديد اللام وتخفيفها.
المسألة الخامسة : الآية تدل على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأن الله تعالى جعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أنه لا ينتسب إلى إبراهيم إلا بالأم، فكذلك الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإن انتسبا إلى رسول الله بالأم وجب كونهما من ذريته، ويقال : إن أبا جعفر الباقر استدل بهذه الآية عند الحجاج بن يوسف.
المسألة السادسة : قوله تعالى :﴿وَمِنْ ءَابَآاـاِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ﴾ يفيد أحكاماً كثيرة : الأول : أنه تعالى ذكر الآباء والذريات والأخوان، فالآباء هم الأصول، والذريات هم الفروع، والأخوان فروع الأصول، وذلك يدل على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء الأنبياء بنوع من الشرف والكرامة، والثاني : أنه تعالى قال :﴿وَمِنْ ءَابَآاـاِهِمْ﴾ وكلمة "من" للتبعيض.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٤
فإن قلنا : المراد من تلك الهداية الهداية إلى الثواب والجنة والهداية إلى الإيمان والمعرفة، فهذه الكلمة تدل على أنه قد كان في آباء هؤلاء الأنبياء من كان غير مؤمن ولا واصل إلى الجنة. أما لو قلنا : المراد بهذه الهداية النبوة لم يفد ذلك. الثالث : أنا إذا فسرنا هذه الهداية بالنبوة كان / قوله :﴿وَمِنْ ءَابَآاـاِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ﴾ كالدلالة على أن شرط كون الإنسان رسولاً من عند الله أن يكون رجلاً، وأن المرأة لا يجوز أن تكون رسولاً من عند الله تعالى، وقوله تعالى بعد ذلك :﴿وَاجْتَبَيْنَـاهُمْ﴾ يفيد النبوة، لأن الاجتباء إذا ذكر في حق الأنبياء عليهم السلام لا يليق به إلا الحمل على النبوة والرسالة.
ثم قال تعالى :﴿ذَالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِه مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه ﴾ واعلم أنه يجب أن يكون المراد من هذا الهدى هو معرفة التوحيد وتنزيه الله تعالى عن الشرك/ لأنه قال بعده :﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام : ٨٨) وذلك يدل على أن المراد من ذلك الهدي ما يكون جارياً مجرى الأمر المضاد للشرك.


الصفحة التالية
Icon