وإذا ثبت أن المراد بهذا الهدى معرفة الله بوحدانيته. ثم إنه تعالى صرح بأن ذلك الهدى من الله تعالى، ثبت أن الإيمان لا يحصل إلا بخلق الله تعالى، ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بنفي الشرك فقال :﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا ﴾ والمعنى أن هؤلاء الأنبياء لو أشركوا لحبط عنهم طاعاتهم وعباداتهم. والمقصود منه تقرير التوحيد وإبطال طريقة الشرك. وأما الكلام في حقيقة الإحباط فقد ذكرناه على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة فلا حاجة إلى الإعادة. والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٤
٥٦
اعلم أن قوله :﴿ أولئك ﴾ إشارة إلى الذين مضى ذكرهم قبل ذلك وهم الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله تعالى قبل ذلك، ثم ذكر تعالى أنه آتاهم الكتاب والحكم والنبوة.
واعلم أن العطف يوجب المغايرة، فهذه الألفاظ الثلاثة لا بد وأن تدل على أمور ثلاثة متغايرة.
واعلم أن الحكام على الخلق ثلاث طوائف : أحدها : الذين يحكمون على بواطن الناس وعلى أرواحهم، وهم العلماء. وثانيها : الذين يحكمون على ظواهر الخلق، وهم السلاطين يحكمون على الناس بالقهر والسلطنة، وثالثها : الأنبياء، وهم الذين أعطاهم الله تعالى من العلوم والمعارف ما لأجله بها يقدرون على التصرف في بواطن الخلق وأرواحهم، وأيضاً أعطاهم من القدرة والمكنة ما لأجله / يقدرون على التصرف في ظواهر الخلق، ولما استجمعوا هذين الوصفين لا جرم كانوا هم الحكام على الإطلاق.
إذا عرفت هذه المقدمة فقوله :﴿الْكِتَـابِ مِنَ﴾ إشارة إلى أنه تعالى أعطاهم العلم الكثير وقوله :﴿وَالْحُكْمَ﴾ إشارة إلى أنه تعالى جعلهم حكاماً على الناس نافذي الحكم فيهم بحسب الظاهر. وقوله :﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾ إشارة إلى المرتبة الثالثة، وهي الدرجة العالية الرفيعة الشريفة التي يتفرع على حصولها حصول المرتبتين المقدمتين المذكورتين، وللناس في هذه الألفاظ الثلاثة تفسيرات كثيرة، والمختار عندنا ما ذكرناه.
واعلم أن قوله :﴿الْكِتَـابِ مِنَ﴾ يحتمل أن يكون المراد من هذا الإيتاء الابتداء بالوحي والتنزيل عليه كما في صحف إبراهيم وتوراة موسى، وإنجيل عيسى عليه السلام، وقرآن محمد صلى الله عليه وسلّم. ويحتمل أن يكون المراد منه أن يؤتيه الله تعالى فهماً تاماً لما في الكتاب وعلماً محيطاً بحقائقه وأسراره، وهذا هو الأولى. لأن الأنبياء الثمانية عشر المذكورين ما أنزل الله تعالى على كل واحد منهم كتاباً إلهياً على التعيين والتخصيص.
ثم قال تعالى :﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـا ؤُلاءِ﴾ والمرادفان يكفر بهذا التوحيد والطعن في الشرك كفار قريش ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَـافِرِينَ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٦
المسألة الأولى : اختلفوا في أن ذلك القوم من هم ؟
على وجوه، فقيل : هم أهل المدينة وهم الأنصار، وقيل : المهاجرون والأنصار، وقال الحسن : هم الأنبياء الثمانية عشر الذين تقدم ذكرهم وهو اختيار الزجاج. قال الزجاج : والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية :﴿ أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ وقال أبو رجاء : يعني الملائكة وهو بعيد لأن اسم القوم قلما يقع على غير بني آدم، وقال مجاهد هم الفرس، وقال ابن زيد : كل من لم يكفر فهو منهم سواء كان ملكاً أو نبياً أو من الصحابة أو من التابعين.
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَـافِرِينَ﴾ يدل على أنه إنما خلقهم للإيمان. وأما غيرهم فهو تعالى ما خلقهم للإيمان، لأنه تعالى لو خلق الكل للإيمان كان البيان والتمكين وفعل الألطاف مشتركاً فيه بين المؤمن وغير المؤمن، وحينئذ لا يبقى لقوله :﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَـافِرِينَ﴾ معنى.
وأجاب الكعبي عنه من وجهين : الأول : أنه تعالى زاد المؤمنين عند إيمانهم وبعده من ألطافه وفوائده وشريف أحكامه ما لا يحصيه إلا الله، وذكر في الجواب وجهاً ثانياً/ فقال :/ وبتقدير : أن يسوى لكان بعضهم إذا قصر ولم ينتفع صح أن يقال بحسب الظاهر أن لم يحصل له نعم الله كالوالد الذي يسوي بين الولدين في العطية، فإنه يصح أن يقال : إنه أعطى أحدهما دون الآخر إذا كان ذلك الآخر ضيعه وأفسده.
واعلم أن الجواب الأول ضعيف، لأن الألطاف الداعية إلى الإيمان مشتركة فيما بين الكافر والمؤمن ؛ والتخصيص عند المعتزلة غير جائز، والثاني : أيضاً فاسد. لأن الوالد لما سوى بين الولدين في العطية، ثم إن أحدهما ضيع نصيبه، فأي عاقل يجوز أن يقال أن الأب ما أنعم عليه، وما أعطاه شيئاً.
المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على أنه تعالى سينصر نبيه ويقوي دينه، ويجعله مستعلياً على كل من عاداه، قاهراً لكل من نازعه، وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع، فكان هذا جارياً مجرى الأخبار عن الغيب، فيكون معجزاً. والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon