جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٦
٥٨
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : لا شبهة في أن قوله :﴿ أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه ﴾ هم الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء، ولا شك في أن قوله :﴿فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ أمر لمحمد عليه الصلاة والسلام، وإنما الكلام في تعيين الشيء الذي أمر الله محمداً أن يقتدي فيه بهم، فمن الناس من قال : المراد أنه يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه، وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال وسائر العقليات، وقال آخرون : المراد الاقتداء بهم في جميع الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة الكاملة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم، وقال آخرون : المراد الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل، وبهذا التقدير كانت هذه الآية دليلاً على أن شرع من قبلنا يلزمنا، وقال آخرون : إنه تعالى إنما ذكر الأنبياء في الآية المتقدمة ليبين أنهم كانوا محترزين عن الشرك مجاهدين بإبطاله بدليل أنه ختم الآية بقوله :﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام : ٨٨) ثم أكد / إصرارهم على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله :﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـا ؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَـافِرِينَ﴾.
ثم قال في هذه الآية :﴿ أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه ﴾ أي هداهم إلى إبطال الشرك وإثبات التوحيد ﴿فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ أي اقتد بهم في نفس الشرك وإثبات التوحيد وتحمل سفاهات الجهال في هذا الباب. وقال آخرون : اللفظ مطلق فهو محمول على الكل إلا ما خصه الدليل المنفصل. قال القاضي : يبعد حمل هذه الآية على أمر الرسول بمتابعة الأنبياء عليهم السلام المتقدمين في شرائعهم لوجوه : أحدها : أن شرائعهم مختلفة متناقضة فلا يصح مع تناقضها أن يكون مأموراً بالاقتداء بهم في تلك الأحكام المتناقضة. وثانيها : أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل.
وإذا ثبت هذا فنقول : دليل ثبات شرعهم كان مخصوصاً بتلك الأوقات لا في غير ذلك الأوقات. فكان الاقتداء بهم في ذلك الهدى هو أن يعلم وجوب تلك الأفعال في تلك الأوقات فقط، وكيف يستدل بذلك على اتباعهم في شرائعهم في كل الأوقات ؟
وثالثها : أن كونه عليه الصلاة والسلام متبعاً لهم في شرائعهم يوجب أن يكون منصبه أقل من منصبهم وذلك باطل بالإجماع، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على وجوب الاقتداء بهم في شرائعهم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٨
والجواب عن الأول : أن قوله :﴿فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ يتناول الكل. فأما ما ذكرتم من كون بعض الأحكام متناقضة بحسب شرائعهم. فنقول : ذلك العام يجب تخصيصه في هذه الصورة فيبقى فيما عداها حجة.
وعن الثاني : أنه عليه الصلاة والسلام لو كان مأموراً بأن يستدل بالدليل الذي استدل به الأنبياء المتقدمون لم يكن ذلك متابعة، لأن المسلمين لما استدلوا بحدوث العالم على وجود الصانع لا يقال : إنهم متبعون لليهود والنصارى في هذا الباب، وذلك لأن المستدل بالدليل يكون أصيلاً في ذلك الحكم، ولا تعلق له بمن قبله البتة، والاقتداء والاتباع لا يحصل إلا إذا كان فعل الأول سبباً لوجوب الفعل على الثاني، وبهذا التقرير يسقط السؤال.
وعن الثالث : أنه تعالى أمر الرسول بالاقتداء بجميعهم في جميع الصفات الحميدة والأخلاق الشريفة، وذلك لا يوجب كونه أقل مرتبة منهم، بل يوجب كونه أعلى مرتبة من الكل على ما سيجيء تقريره بعد ذلك إن شاء الله تعالى/ فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا.
المسألة الثانية : احتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى الله عليه وسلّم أفضل من جميع الأنبياء عليهم السلام، وتقريره : هو أنا بينا أن خصال الكمال، وصفات الشرف كانت مفرقة فيهم / بأجمعهم، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة، وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء ويوسف كان مستجمعاً لهاتين الحالتين. وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة والمعجزات الظاهرة، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، كانوا أصحاب الزهد، وإسماعيل كان صاحب الصدق، ويونس صاحب التضرع، فثبت إنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء لأن الغالب عليه كان خصلة معينة من خصال المدح والشرف، ثم أنه تعالى لما ذكر الكل أمر محمداً عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بهم بأسرهم، فكان التقدير كأنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم أن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ولما أمره الله تعالى بذلك، امتنع أن يقال : إنه قصر في تحصيلها، فثبت أنه حصلها، ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أنه اجتمع فيه من فصال الخير ما كان متفرقاً فبهم بإسرهم، ومتى كان الأمر كذلك، وجب أن يقال : إنه أفضل منهم بكليتهم. والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon