المسألة الثالثة : قال الواحدي : قوله :﴿هُدَى اللَّهِ﴾ دليل على أنهم مخصوصون بالهدى، لأنه لو هدى جميع المكلفين لم يكن لقوله :﴿ أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه ﴾ فائدة تخصيص.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٨
المسألة الرابعة : قال الواحدي : الاقتداء في اللغة إتيان الثاني بمثل فعل الأول لأجل أنه فعله. روى اللحياني عن الكسائي أنه قال : يقال لي بك قدوة وقدوة.
المسألة الخامسة : قال الواحدي : قرأ ابن عامر ﴿اقْتَدِهْ ﴾ بكسر الدال وبشم الهاء للكسر من غير بلوغ ياء، والباقون ﴿اقْتَدِهْ ﴾ ساكنة الهاء، غير أن حمزة والكسائي يحذفانها في الوصل ويثبتانها في الوقف، والباقون يثبتونها في الوصل والوقف.
والحاصل : أنه حصل الإجماع على إثباتها في الوقف. قال الواحدي : الوجه الإثبات في الوقف والحذف في الوصل، لأن هذه الهاء هاء وقعت في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء، وذلك لأن الهاء للوقف، كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن، فكما لا تثبت الهمزة حال الوصل، كذلك ينبغي أن لا تثبت الهاء إلا أن هؤلاء الذين أثبتوا راموا موافقة المصحف، فإن الهاء ثابتة في الخط فكرهوا مخالفة الخط في حالتي الوقف والوصل فأثبتوا. وأما قراءة ابن عامر : فقال أبو بكر ومجاهد : هذا غلط، لأن هذه الهاء هاء وقف، فلا تعرب في حال من الأحوال، وإنما تذكر ليظهر بها حركة ما قبلها. قال أبو علي الفارسي : ليس بغلط، ووجهها أن تجعل الهاء كناية عن المصدر، والتقدير : فبهداهم اقتد الاقتداء، فيضمر الاقتداء لدلالة الفعل عليه، وقياسه إذا وقف أن تسكن الهاء، لأن هاء الضمير تسكن في الوقف، كما تقول : اشتره. والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ فالمراد به أنه تعالى لما أمره بالاقتداء بهدى الأنبياء / عليهم السلام المتقدمين، وكان من جملة هداهم ترك طلب الأجر في إيصال الدين وإبلاغ الشريعة. لا جرم اقتدى بهم في ذلك، فقال :﴿لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ ولا أطلب منكم مالاً ولا جعلاً ﴿إِنْ هُوَ﴾ يعني القرإن ﴿إِلا ذِكْرَى لِلْعَـالَمِينَ﴾ يريد كونه مشتملاً على كل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم وقوله :﴿إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَـالَمِينَ﴾ يدل على أنه صلى الله عليه وسلّم مبعوث إلى كل أهل الدنيا لا إلى قوم دون قوم. والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٨
٦٤
اعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد. وأنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد، وإبطال الشرك، وقرر تعالى ذلك الدليل بالوجوه الواضحة شرع بعده في تقرير أمر النبوة، فقال :﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه ﴾ حيث أنكروا النبوة والرسالة، فهذا بيان وجه نظم هذه الآيات وأنه في غاية الحسن. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير قوله تعالى :﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه ﴾ وجوه : قال ابن عباس : ما عظموا الله حق تعظيمه. وروى عنه أيضاً أنه قال معناه : ما آمنوا إن الله على كل شيء قدير. وقال أبو العالية : ما وصفوه حق صفته. وقال الأخفش : ما عرفوه حق معرفته، وحقق الواحدي رحمه الله ذلك، فقال يقال : قدر الشيء إذا سبره وحرره، وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدراً ومنه قوله عليه السلام :"وإن غم عليكم فاقدروا له" أي فاطلبوا أن تعرفوه هذا أصله في اللغة، ثم قال يقال لمن عرف شيئاً هو يقدر قدره، وإذا لم يعرفه بصفاته أنه لا يقدر قدره، فقوله :﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه ﴾ صحيح في كل المعاني المذكورة.
المسألة الثانية : أنه تعالى لما حكى عنهم ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه إِذْ قَالُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ ﴾ بين السبب فيه، وذلك هو قولهم ما أنزل الله علي بشر من شيء.
واعلم أن كل من أنكر النبوة والرسالة فهو في الحقيقة ما عرف الله حق معرفته، وتقريره من وجوه : الأول : أن منكر البعثة والرسالة إما أن يقول : إنه تعالى ما كلف أحداً من الخلق تكليفاً أصلاً، أو يقول : إنه تعالى كلفهم التكاليف، والأول باطل، لأن ذلك يقتضي أنه تعالى أباح لهم جميع المنكرات والقبائح نحو شتم الله، ووصفه بما لا يليق به، والاستخفاف بالأنبياء والرسل وأهل الدين، والإعراض عن شكر النعم، ومقابلة الإنعام بالإساءة. ومعلوم أن كل ذلك باطل. وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي، فههنا لا بد من مبلغ وشارع ومبين، وما ذاك إلا الرسول.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٤
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : العقل كاف في إيجاب الواجبات واجتناب المقبحات ؟


الصفحة التالية
Icon