وأما السؤال الثاني : فجوابه : أن كفار قريش واليهود والنصارى، لما كانوا متشاركين في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لم يبعد أن يكون الكلام الواحد وارداً على سبيل أن يكون بعضه خطاباً مع كفار مكة وبقيته يكون خطاباً مع اليهود والنصارى، فهذا ما يحضرنا في هذا البحث الصعب، وبالله التوفيق.
المسألة الرابعة : مذهب كثير من المحققين أن عقول الخلق لا تصل إلى كنه معرفة الله تعالى / البتة، ثم إن الكثير من أهل هذا المذهب يحتجون على صحته بقوله تعالى :﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه ﴾ أي وما عرفوا الله حق معرفته، وهذا الاستدلال بعيد، لأنه تعالى ذكر هذه اللفظة في القرآن في ثلاثة مواضع، وكلها وردت في حق الكفار فههنا ورد في حق اليهود أو كفار مكة، وكذا القول في الموضعين الآخرين، وحينئذ لا يبقى في هذا الاستدلال فائدة. والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٤
المسألة الخامسة : في هذه الآية أحكام.
الحكم الأول
أن النكرة في موضع النفي تفيد العموم، والدليل عليه هذه الآية فإن قوله :﴿مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ ﴾ نكرة في موضع النفي، فلو لم تفد العموم لما كان قوله تعالى :﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَـابَ الَّذِى جَآءَ بِه مُوسَى ﴾ إبطالاً له، ونقضاً عليه، ولو لم يكن كذلك لفسد هذا الاستدلال، ولما كان ذلك باطلاً، ثبت أن النكرة في موضع النفي تعم. والله أعلم.
الحكم الثاني
النقض يقدح في صحة الكلام، وذلك لأنه تعالى نقض قولهم :﴿مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ ﴾ بقوله :﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَـابَ الَّذِى جَآءَ بِه مُوسَى ﴾ فلو لم يدل النقض على فساد الكلام لما كانت حجة الله مفيدة لهذا المطلوب.
واعلم أن قول من يقول : إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقص مبطلاً ضعيف، إذ لو كان الأمر كذلك لسقطت حجة الله في هذه الآية لأن اليهودي كان يقول معجزات موسى أظهر، وأبهر من معجزاتك، فلم يلزم من إثبات النبوة هناك إثباتها هنا، ولو كان الفرق مقبولاً لسقطت هذه الحجة، وحيث لا يجوز القول بسقوطها علمنا أن النقض على الإطلاق مبطل والله أعلم.
الحكم الثالث
تفلسف الغزالي فزعم أن هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية، وذلك لأن حاصله يرجع إلى أن موسى أنزل الله تعالى عليه شيئاً وأحد من البشر ما أنزل الله عليه شيئاً ينتج من الشكل الثاني : أن موسى ما كان من البشر، وهذا خلف محال، وليست هذه الاستحالة بحسب شكل القياس، ولا بحسب صحة المقدمة الأولى، فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية، وهي قولهم : ما أنزل الله على بشر من شيء، فوجب القول بكونها كاذبة، فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب، إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني من الأشكال المنطقية، وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف. والله أعلم.
واعلم أنه تعالى لما قال :﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَـابَ الَّذِى جَآءَ بِه مُوسَى ﴾ وصف بعده كتاب موسى بالصفات.
فالصفة الأولى : كونه نوراً وهدى للناس.
واعلم أنه تعالى سماه نوراً تشبيهاً له بالنور الذي به يبين الطريق.
فإن قالوا : فعلى هذا التفسير لا يبقى بين كونه نوراً وبين كونه هدى للناس فرق، وعطف أحدهما على الآخر يوجب التغاير.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٤
قلنا : النور له صفتان : إحداهما : كونه في نفسه ظاهراً جلياً، والثانية : كونه بحيث يكون سبباً لظهور غيره/ فالمراد من كونه نوراً وهدى هذان الأمران.
واعلم أنه تعالى وصف القرآن أيضاً بهذين الوصفين في آية أخرى، فقال :﴿وَلَـاكِن جَعَلْنَـاهُ نُورًا نَّهْدِى بِه مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾.
الصفة الثانية : قوله :﴿تَجْعَلُونَه قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأول : قرأ أبو عمرو وابن كثير على لفظ الغيبة، وكذلك يبدونها ويخفون لأجل أنهم غائبون ويدل عليه قوله تعالى :﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه إِذْ قَالُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ ﴾ فلما وردت هذه الألفاظ على لفظ المغايبة، فكذلك القول في البواقي، ومن قرأ بالتاء على الخطاب، فالتقدير : قل لهم تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً، والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا ﴾ فجاء على الخطاب، فكذلك ماقبله.
المسألة الثانية : قال أبو علي الفارسي : قوله :﴿تَجْعَلُونَه قَرَاطِيسَ﴾ أي يجعلونه ذات قراطيس. أي يودعونه إياها.
فإن قيل : إن كل كتاب فلا بد وأن يودع في القراطيس، فإذا كان الأمر كذلك في كل الكتب، فما السبب، في أن حكى الله تعالى هذا المعنى في معرض الذم لهم.
قلنا : الذم لم يقع على هذا المعنى فقط، بل المراد أنهم لما جعلوه قراطيس، وفرقوه وبعضوه، لا جرم قدروا على إبداء البعض، وإخفاء البعض، وهو الذي فيه صفة محمد عليه الصلاة والسلام.


الصفحة التالية
Icon