فإن قيل : كيف يقدرون على ذلك مع أن التوراة كتاب وصل إلى أهل المشرق والمغرب، وعرفه أكثر أهل العلم وحفظوه، ومثل هذا الكتاب لا يمكن إدخال الزيادة والنقصان فيه، والدليل عليه أن الرجل في هذا الزمان لو أراد إدخال الزيادة والنقصان في القرآن لم يقدر عليه، فكذا القول في التوراة.
قلنا : قد ذكرنا في سورة البقرة أن المراد من التحريف تفسير آيات التوراة بالوجوه الباطلة الفاسدة كما يفعله المبطلون في زماننا هذا بآيات القرآن.
فإن قيل : هب أنه حصل في التوراة آيات دالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام. إلا أنها قليلة، والقوم ما كانوا يخفون من التوراة إلا تلك الآيات، فلم قال : ويخفون كثيراً.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٤
قلنا : القوم كما يخفون الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، فكذلك يخفون الآيات المشتملة على الأحكام، ألا ترى أنهم حاولوا على إخفاء الآية المشتملة على رجم الزاني المحصن.
الصفة الثالثة : قوله :﴿وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا ءَابَآؤُكُمْ ﴾ والمراد أن التوراة كانت مشتملة على البشارة بمقدم محمد واليهود قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانوا يقرؤن تلك الآيات وما كانوا يفهمون معانيها، فلما بعث الله محمداً ظهر أن المراد من تلك الآيات هو مبعثه صلى الله عليه وسلّم، فهذا هو المراد من قوله :﴿وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا ءَابَآؤُكُمْ ﴾.
واعلم أنه تعالى لما وصف التوراة بهذه الصفات الثلاث، قال :﴿قُلِ اللَّهُ﴾ والمعنى أنه تعالى قال في أول الآية :﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَـابَ﴾ الذي صفته كذا وكذا فقال بعده :﴿قُلِ اللَّهُ﴾ والمعنى أن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف بالصفات المذكورة المؤيد قول صاحبه بالمعجزات القاهرة الباهرة مثل معجزات موسى عليه السلام لا يكون إلا من الله تعالى، فلما صار هذا المعنى ظاهراً بسبب ظهور الحجة القاطعة، لا جرم قال تعالى لمحمد قل المنزل لهذا الكتاب هو الله تعالى، ونظيره قوله :﴿قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةًا قُلِ اللَّه ﴾ وأيضاً إن الرجل الذي حاول إقامة الدلالة على وجود الصانع يقول من الذي أحدث الحياة بعد عدمها/ ومن الذي أحدث العقل بعد الجهالة، ومن الذي أودع في الحدقة القوة الباصرة، وفي الصماخ القوة السامعة، ثم إن ذلك القائل نفسه يقول ﴿اللَّهِ﴾ والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة والبينة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها فسواء أقر الخصم به أو لم يقر فالمقصود حاصل فكذا ههنا.
ثم قال تعالى بعده :﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والأنذار وهذا المبلغ العظيم فحينئذ لم يبق عليك من أمرهم شيء البتة، ونظيره قوله تعالى :﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلَـاغُ ﴾.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٤
المسألة الثانية : قال بعضهم هذه الآية منسوخة بآية السيف وهذا بعيد لأن قوله ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ مذكور لأجل التهديد، وذلك لا ينافي حصول المقاتلة، فلم يكن ورود الآية / الدالة على وجوب المقاتلة، رافعاً لشيء من مدلولات هذه الآية، فلم يحصل النسخ فيه. والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٤
٦٦
اعلم أنه تعالى لما أبطل بالدليل قول من قال : ما أنزل الله على بشر من شيء، ذكر بعده أن القرآن كتاب الله، أنزله الله تعالى على محمد عليه الصلاة والسلام.
واعلم أن قوله :﴿وَهَـاذَآ﴾ إشارة إلى القرآن وأخبر عنه بأنه كتاب وتفسير الكتاب قد تقدم في أول سورة البقرة ثم وصفه بصفات كثيرة.
الصفة الأولى : قوله :﴿أَنزَلْنَـاهُ﴾ والمقصود أن يعلم أنه من عند الله تعالى لا من عند الرسول لأنه لا يبعد أن يخص الله محمداً عليه الصلاة والسلام بعلوم كثيرة يتمكن بسببها من تركيب ألفاظ القرآن على هذه الصفة من الفصاحة فبين تعالى أنه ليس الأمر على هذه الصفة، وأنه تعالى هو الذي تولى إنزاله بالوحي على لسان جبريل عليه السلام.
الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿مُّبَارَكٌ﴾ قال أهل المعاني كتاب مبارك أي كثير خيره دائم بركته ومنفعته، يبشر بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية، وأقول : العلوم إما نظرية، وإما عملية أما العلوم النظرية، فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه، ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب وأما العلوم العملية، فالمطلوب، إما أعمال الجوارح وإما أعمال القلوب، وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب، ثم قد جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة.


الصفحة التالية
Icon