يقول مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي : وأنا قد نقلت أنواعاً من العلوم النقلية والعقلية، فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادات في الدين والدنيا مثل ما حصل بسبب خدمة هذا العلم.
الصفة الثالثة : قوله :﴿مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ فالمراد كونه مصدقاً لما قبله من الكتب والأمر في الحقيقة كذلك، لأن الموجود في سائر الكتب الإلهية إما علم الأصول، وإما علم الفروع.
أما علوم الأصول : فيمتنع وقوع التفاوت فيه بسبب اختلاف الأزمنة والأمكنة، فوجب القطع بأن المذكور في القرآن موافق ومطابق لما في التوراة والزبور والإنجيل وسائر الكتب الإلهية.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٦
وأما علم الفروع : فقد كانت الكتب الإلهية المتقدمة على القرآن مشتملة على البشارة بمقدم محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل في تلك الكتب أن التكاليف الموجودة فيها، إنما تبقى إلى وقت ظهور محمد عليه الصلاة والسلام، وأما بعد ظهور شرعه فإنها تصير منسوخة، فثبت أن تلك الكتب دلت على ثبوت تلك الأحكام على هذا الوجه، والقرآن مطابق لهذا المعنى وموافق، فثبت كون القرآن مصدقاً لكل الكتب الإلهية في جملة علم الأصول والفروع.
الصفة الرابعة : قوله تعالى :﴿وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ وههنا أبحاث :
البحث الأول : اتفقوا على أن ههنا محذوفاً، والتقدير : ولتنذر أهل أم القرى. واتفقوا على أن أم القرى هي مكة، واختلفوا في السبب الذي لأجله سميت مكة بهذا الاسم. فقال ابن عباس : سميت بذلك، لأن الأرضين دحيت من تحتها ومن حولها، وقال أبو بكر الأصم : سميت بذلك لأنها قبل أهل الدنيا، فصارت هي كالأصل وسائر البلاد والقرى تابعة لها، وأيضاً من أصول عبادات أهل الدنيا الحج، وهو إنما يحصل في تلك البلدة، فلهذا السبب يجتمع الخلق إليها كما يجتمع الأولاد إلى الأم/ وأيضاً فلما كان أهل الدنيا يجتمعون هناك بسبب الحج، لا جرم يحصل هناك أنواع من التجارات والمنافع ما لا يحصل في سائر البلاد، ولا شك أن الكسب والتجارة من أصول المعيشة، فلهذا السبب سميت مكة أم القرى. وقيل : إنما سميت مكة أم القرى لأن الكعبة أول بيت وضع للناس، وقيل أيضاً : إن مكة أول بلدة سكنت في الأرض.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله :﴿وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ دخل فيه سائر البلدان والقرى.
والبحث الثاني : زعمت طائفة من اليهود أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان رسولاً إلى العرب فقط. واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية وقالوا إنه تعالى بين أنه إنما أنزل عليه هذا القرآن ليبلغه إلى أهل مكة وإلى القرى المحيطة بها، والمراد منها جزيرة العرب، ولو كان مبعوثاً إلى كل العالمين لكان التقييد بقوله :﴿لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ باطلاً.
والجواب : أن تخصيص هذه المواضع بالذكر لا يدل على انتفاء الحكم فيما سواها إلا بدلالة / المفهوم وهي ضعيفة، لا سيما وقد ثبت بالتواتر الظاهر، المقطوع به من دين محمد عليه الصلاة والسلام أنه كان يدَّعي كونه رسولاً إلى كل العالمين، وأيضاً قوله :﴿وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ يتناول جميع البلاد والقرى المحيطة بها، وبهذا التقدير : فيدخل فيه جمع بلاد العالم، والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٦
البحث الثالث : قرأ عاصم في رواية أبي بكر ﴿لِّيُنذِرَ﴾ بالياء جعل الكتاب هو المنذر، لأن فيه إنذاراً، ألا ترى أنه قال :﴿تُحَرِّكْ بِه ﴾ أي بالكتاب، وقال :﴿وَأَنذِرْ بِهِ﴾ وقال :﴿إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْىِ ﴾ فلا يمتنع إسناد الإنذار إليه على سبيل الاتساع، وأما الباقون : فإنهم قرؤا ﴿وَلِتُنذِرَ﴾ بالتاء خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلّم، لأن المأمور والموصوف بالإنذار هو. قال تعالى :﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ﴾ وقال :﴿وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾.


الصفحة التالية
Icon