ثم قال تعالى :﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِه ﴾ وظاهر هذا يقتضي أن الإيمان بالآخرة جار مجرى السبب للإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلّم. والعلماء ذكروا في تقرير هذه السببية وجوهاً : الأول : أن الذي يؤمن بالآخرة هو الذي يؤمن بالوعد والوعيد والثواب والعقاب، ومن كان كذلك فإنه يعظم رغبته في تحصيل الثواب، ورهبته عن حلول العقاب، ويبالغ في النظر والتأمل في دلائل التوحيد والنبوة، فيصل إلى العلم والإيمان. والثاني : أن دين محمد عليه الصلاة والسلام مبني على الإيمان بالبعث والقيامة، وليس لأحد من الأنبياء مبالغة في تقرير هذه القاعدة مثل ما في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، فلهذا السبب كان الإيمان بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وبصحة الآخرة أمرين متلازمين، والثالث : يحتمل أن يكون المراد من هذا الكلام التنبيه على إخراج أهل مكة من قبول هذا الدين، لأن الحامل على تحمل مشقة النظر والاستدلال، وترك رياسة الدنيا، وترك الحقد والحسد ليس إلا الرغبة في الثواب، والرهبة عن العقاب. وكفار مكة لما لم يعتقدوا في البعث والقيامة، امتنع منهم ترك الحسد وترك الرياسة، فلا جرم يبعد قبولهم لهذا الدين واعترافهم بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
ثم قال :﴿وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ والمراد أن الإيمان بالآخرة كما يحمل الرجل على الإيمان بالنبوة، فكذلك يحمله على المحافظة على الصلوات، وليس لقائل أن يقول : الإيمان بالآخرة يحمل على كل الطاعات، فما الفائدة في تخصيص الصلاة بالذكر ؟
لأنا نقول : المقصود منه التنبيه على أن الصلاة أشرف العبادات بعد الإيمان بالله وأعظمها خطراً، ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة كما قال تعالى :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ ﴾ (البقرة : ١٤٣) أي صلاتكم، ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة. قال عليه الصلاة / والسلام :"من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر" فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف، لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام. والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٦
٦٩
اعلم أنه تعالى لما شرح كون القرآن كتاباً نازلاً من عند الله وبين ما فيه من صفات الجلالة والشرف والرفعة، ذكر عقيبه ما يدل على وعيد من ادعى النبوة والرسالة على سبيل الكذب والافتراء فقال :﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى عظم وعيد من ذكر أحد الأشياء الثلاثة : فأولها : أن يفتري على الله كذباً. قال المفسرون : نزل هذا في مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة، وفي الأسود العنسي صاحب صنعاء، فإنهما كانا يدعيان النبوة والرسالة من عند الله على سبيل الكذب والافتراء، وكان مسيلمة يقول : محمد رسول قريش، وأنا رسول بني حنيفة. قال القاضي : الذي يفتري على الله الكذب يدخل فيه من يدعي الرسالة كذباً، ولكن لا يقتصر عليه، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فكل من نسب إلى الله تعالى ما هو برىء منه، إما في الذات، وإما في الصفات وإما في الأفعال كان داخلاً تحت هذا الوعيد. قال : والافتراء على الله في صفاته، كالمجسمة، وفي عدله كالمجبرة، لأن هؤلاء قد ظلموا أعظم أنواع الظلم بأن افتروا على الله الكذب، وأقول : أما قوله : المجسمة قد افتروا على الله الكذب، فهو حق. وأما قوله : إن هذا افتراء على الله في صفاته، فليس بصحيح. / لأن كون الذات جسماً ومتحيزاً ليس بصفة، بل هو نفس الذات المخصوصة، فمن زعم أن إله العالم ليس بجسم، كان معناه أنه يقول : جميع الأجسام والمتحيزات محدثة، ولها بأسرها خالق هو موجود ليس بمتحيز، والمجسم ينفي هذه الذات، فكان الخلاف بين الموحد والمجسم ليس في الصفة بل في نفس الذات، لأن الموحد يثبت هذه الذات والمجسم ينفيها، فثبت أن هذا الخلاف لم يقع في الصفة، بل في الذات. وأما قول : المجبرة قد افتروا على الله تعالى في صفاته، فليس بصحيح، لأنه يقال له المجبرة ما زادوا على قولهم الممكن لا بد له من مرجح، فإن كذبوا في هذه القضية، فكيف يمكنهم أن يعرفوا وجود الإله ؟
وإن صدقوا في ذلك لزمهم الإقرار بتوقيف صدور الفعل على حصول الداعي بتخليق الله تعالى، وذلك عين ما نسميه بالجبر، فثبت أن الذي وصفه بكونه افتراء على الله باطل، بل المفتري على الله من يقول الممكن لا يتوقف رجحان أحد طرفيه على الآخر على حصول المرجح. فإن من قال هذا الكلام لزمه نفي الصانع بالكلية، بل يلزمه نفي الآثار والمؤثرات بالكلية.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٩


الصفحة التالية
Icon