والنوع الثاني : من الأشياء التي وصفها الله تعالى بكونها افتراء قوله :﴿أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ﴾ والفرق بين هذا القول وبين ما قبله، أن في الأول كان يدعي أنه أوحى إليه وما كان يكذب بنزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلّم، وأما في هذا القول، فقد أثبت الوحي لنفسه ونفاه عن محمد عليه الصلاة والسلام، وكان هذا جمعاً بين نوعين عظيمين من الكذب، وهو إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود.
والنوع الثالث : قوله :﴿سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ اللَّه ﴾ قال المفسرون : المراد ما قاله النضر بن الحرث وهو قوله :﴿لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـاذَآ ﴾ وقوله في القرآن : إنه من أساطير الأولين، وكل أحد يمكنه الإتيان بمثله، وحاصله : أن هذا القائل يدعي معارضة القرآن. وروى أيضاً أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب الوحي للرسول عليه الصلاة والسلام، فلما نزل قوله :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ﴾ (المؤمنون : ١٢) أملاء الرسول عليه السلام، فلما انتهى إلى قوله :﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ عجب عبد الله منه فقال : فتبارك الله أحسن الخالقين فقال الرسول هكذا أنزلت الآية، فسكت عبد الله وقال : إن كان محمد صادقاً، فقد أوحى إلي، وإن كان كاذباً فقد عارضته، فهذا هو المراد من قوله :﴿سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ﴾.
أما قوله تعالى :﴿وَلَوْ تَرَى ا إِذِ الظَّـالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ فاعلم أن أول الآية وهو قوله :﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ يفيد التخويف العظيم على سبيل الإجمال وقوله بعد ذلك :﴿وَلَوْ تَرَى ا إِذِ الظَّـالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ كالتفصيل لذلك المجمل، والمراد بالظالمين الذين ذكرهم، وغمرات الموت جمع غمرة وهي شدة الموت، وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه، ومنه غمرة الماء، وغمرة الحرب، ويقال غمره الشيء إذا علاه وغطاه. وقال الزجاج : يقال لكل من كان في شيء كثير قد غمره ذلك. وغمره الدين إذا كثر عليه هذا هو الأصل، ثم يقال للشدائد والمكاره : الغمرات، وجواب "لو" محذوف، أي لرأيت أمراً عظيماً، والملائكة باسطو أيديهم قال ابن عباس : ملائكة العذاب باسطو أيديهم يضربونهم ويعذبونهم، كما يقال بسط إليه يده بالمكروه أخرجوا أنفسكم. ههنا محذوف، والتقدير : يقولون أخرجوا أنفسكم، وفيه مسألتان :
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٩
المسألة الأولى : في الآية سؤال : وهو أنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم فما الفائدة في هذا الكلام ؟
فنقول : في تفسير هذه الكلمة وجوه :
الوجه الأول : ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى غمرات الموت في الآخرة فأدخلوا جهنم فغمرات الموت عبارة عما يصيبهم هناك من أنواع الشدائد والتعذيبات، والملائكة باسطو أيديهم عليهم بالعذاب يبكتونهم، ويقولون لهم أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب الشديد إن قدرتم.
الوجه الثاني : أن يكون المعنى : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت عند نزول الموت بهم في الدنيا والملائكة باسطو أيديهم لقبض أرواحهم يقولون لهم أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد وخلصوها من هذه الآفات والآلام.
والوجه الثالث : أن قوله :﴿أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ﴾ أي أخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملازم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله، ويقول له : أخرج إلي ما لي عليك الساعة ولا أبرح من مكاني حتى أنزعه من أحداقك.
والوجه الرابع : أن هذه اللفظة كناية عن شدة حالهم وأنهم بلغوا في البلاء والشدة إلى حيث تولى بنفسه إزهاق روحه.
والوجه الخامس : أن قوله :﴿أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ﴾ ليس بأمر، بل هو وعيد وتقريع، كقول القائل : امض الآن لترى ما يحل بك. قال المفسرون : إن نفس المؤمن تنشط في الخروج للقاء ربه ونفس الكافر تكره ذلك فيشق عليها الخروج، لأنها تصير إلى أشد العذاب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"من أراد لقاء الله أراد الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" وذلك / عند نزع الروح، فهؤلاء الكفار تكرههم الملائكة على نزع الروح :
المسألة الثانية : الذين قالوا إن النفس الإنسانية شيء غير هذا الهيكل وغير هذا الجسد احتجوا عليه بهذه الآية، وقالوا : لا شك أن قوله :﴿أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ﴾ معناه : أخرجوا أنفسكم عن أجسادكم، وهذا يدل على أن النفس مغايرة للأجساد إلا أنا لو حملنا الآية على الوجهين الأولين من التأويلات الخمسة المذكورة، لم يتم هذا الاستدلال.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٩


الصفحة التالية
Icon