إذا عرفت هذا فنقول : قد دللنا على أن الأجسام متماثلة، وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كان اختصاص كل واحد منها بصفة معينة دليلاً على أن ذلك ليس إلا بتقدير الفاعل المختار فهذا وجه الاهتداء بها في ظلمات بر التعطيل. وأما وجه الاهتداء بها في ظلمات بحر التشبيه فلأنا نقول إنه لا عيب يقدح في إلهية هذه الكواكب إلا أنها أجسام فتكون مؤلفة من الأجزاء والأبعاض، وأيضاً إنها متناهية ومحدودة، وأيضاً إنها متغيرة ومتحركة ومنتقلة من حال إلى حال فهذه الأشياء إن لم تكن عيوباً في الإلهية امتنع الطعن في إلهيتها، وإن كانت عيوباً في الإلهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها فوجب الجزم بأن إله العالم والسماء والأرض منزه عن الجسمية والأعضاء والأبعاض والحد والنهاية والمكان والجهة، فهذا بيان الاهتداء بهذه الكواكب في بر التعطيل وبحر التشبيه، وهذا وإن كان عدولاً عن حقيقة اللفظ إلى مجازه إلا أنه قريب مناسب لعظمة كتاب الله تعالى.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٨٠
الوجه السادس : في منافع هذه الكواكب ما ذكره الله تعالى في قوله :﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا﴾ (آل عمران : ١٩١) فنبه على سبيل الإجمال على أن في وجود كل واحد منها حكمة عالية ومنفعة شريفة، وليس كل ما لا يحيط عقلنا به على التفصيل وجب نفيه فمن أراد أن يقدر حكمة الله تعالى في ملكه وملكوته بمكيال خياله ومقياس قياسه فقد ضل ضلالاً مبيناً، ثم إنه تعالى لما ذكر الاستدلال بأحوال هذه النجوم. قال :﴿قَدْ فَصَّلْنَا الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ وفيه وجوه : الأول : المراد أن هذه النجوم كما يمكن أن يستدل بها على الطرقات في ظلمات البر والبحر/ فكذلك يمكن أن يستدل بها على معرفة الصانع الحكيم، وكمال قدرته وعلمه. الثاني : أن يكون المراد من العلم ههنا العقل فقوله :﴿قَدْ فَصَّلْنَا الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ نظير قوله تعالى في سورة البقرة :﴿إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (البقرة : ١٦٤) إلى قوله :﴿لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ وفي آل عمران في قوله :﴿إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لايَـاتٍ لاوْلِى الالْبَـابِ﴾ (آل عمران : ١٩٠) والثالث : أن يكون المراد من قوله :/ ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ لقوم يتفكرون ويتأملون ويستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٨٠
٨٢
هذا نوع رابع من دلائل وجود الإله وكمال قدرته وعلمه، وهو الاستدلال بأحوال الإنسان فنقول لا شبهة في أن النفس الواحدة هي آدم عليه السلام وهي نفس واحدة. وحواء مخلوقة من ضلع من أضلاعه. فصار كل الناس من نفس واحدة وهي آدم.
فإن قيل : فما القول في عيسى ؟
قلنا : هو أيضاً مخلوق من مريم التي هي مخلوقة من أبويها.
فإن قالوا : أليس أن القرآن قد دل على أنه مخلوق من الكلمة أو من الروح المنفوخ فيها فكيف يصح ذلك ؟
قلنا : كلمة "من" تفيد ابتداء الغاية ولا نزاع أن ابتداء تكون عيسى عليه السلام كان من مريم وهذا القدر كاف في صحة هذا اللفظ. قال القاضي : فرق بين قوله :﴿أَنشَأَكُم﴾ وبين قوله :﴿خَلَقَكُمْ﴾ لأن أنشأكم يفيد أنه خلقكم لا ابتداء. ولكن على وجه النمو والشنوء لا من مظهر من الأبوين، كما يقال : في النبات إنه تعالى أنشأه بمعنى النمو والزيادة إلى وقت الانتهاء. وأما قوله :﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ﴾ ففيه مباحث :
البحث الأول : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾ بكسر القاف والباقون بفتحها قال أبو علي الفارسي. قال سيبويه، يقال : قر في مكانه واستقر فمن كسر القاف كان المستقر بمعنى القار وإذا كان كذلك وجب أن يكون خبره المضمر "منكم" أي منكم مستقر. ومن فتح القاف فليس على أنه مفعول به لأن استقر لا يتعدى فلا يكون له مفعول به فيكون اسم مكان فالمستقر بمنزلة المقر. وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون خبره المضمر "منكم" بل يكون خبره "لكم" فيكون التقدير لكم مقر وأما المستودع فإن استودع فعل يتعدى إلى مفعولين تقول استودعت زيداً ألفاً وأودعت مثله، فالمستودع يجوز أن يكون اسماً للإنسان الذي استودع ذلك المكان ويجوز أن يكون المكان نفسه.
إذا عرفت هذا فنقول : من قرأ مستقراً بفتح القاف جعل المستودع مكاناً ليكون مثل المعطوف عليه والتقدير فلكم مكان استقرار ومكان استيداع ومن قرأ ﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾ بالكسر، فالمعنى : منكم مستقر ومنكم مستودع، والتقدير : منكم من استقر ومنكم من استودع. والله أعلم.
المبحث الثاني : الفرق بين المستقر والمستودع أن المستقر أقرب إلى النبات من المستودع فالشيء الذي حصل في موضع ولا يكون على شرف الزوال يسمى مستقراً فيه، وأما إذا حصل فيه وكان على شرف الزوال يسمى مستودعاً لأن المستودع في معرض أن يسترد في كل حين وأوان.


الصفحة التالية
Icon