قلنا : لا شك أن حصول التفاوت في علم الله تعالى محال. إلا أن المقصود من هذا اللفظ أن العناية بإظهار هداية المهتدين فوق العناية بإظهار ضلال الضالين، ونظيره قوله تعالى :﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ فذكر الإحسان مرتين والإسارة مرة واحدة. والثاني : أن موضع ﴿مِنْ﴾ رفع بالابتداء ولفظها لفظ الاستفهام، والمعنى إن ربك هو أعلم أي الناس يضل عن سبيله ﴿قَالَ﴾ وهذا مثل قوله تعالى :﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى ﴾ وهذا قول : المبرد والزجاج والكسائي والفراء.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٢٨
١٢٨
في الآية مباحث نذكرها في معرض السؤال والجواب.
السؤال الأول :"الفاء" في قوله :﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ يقتضي تعلقاً بما تقدم، فما ذلك الشيء ؟
والجواب : قوله :﴿فَكُلُوا ﴾ مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحللون الحرام ويحرمون الحلال، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين : إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن / تأكلوه مما قتلتموه أنتم. فقال الله للمسلمين إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله.
السؤال الثاني : القوم كانوا يبيحون أكل ما ذبح على اسم الله ولا ينازعون فيه، وإنما النزاع في أنهم أيضاً كانوا يبيحون أكل الميتة، والمسلمون كانوا يحرمونها، وإذا كان كذلك كان ورود الأمر بإباحة ما ذكر اسم الله عليه عبثاً لأنه يقتضي إثبات الحكم في المتفق عليه وترك الحكم في المختلف فيه.
والجواب : فيه وجهان : الأول : لعل القوم كانوا يحرمون أكل المذكاة ويبيحون أكل الميتة، فالله تعالى رد عليهم في الأمرين، فحكم بحل المذكاة بقوله :﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ وبتحريم الميتة بقوله :﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ الثاني : أن نحمل قوله :﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ على أن المراد اجعلوا أكلكم مقصوراً على ما ذكر اسم الله عليه، فيكون المعنى على هذا الوجه تحريم أكل الميتة فقط.
السؤال الثالث : قوله :﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ صيغة الأمر، وهي للإباحة. وهذه الإباحة حاصلة في حق المؤمن وغير المؤمن، وكلمة ﴿ءَانٍ﴾ في قوله :﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ﴾ تفيد الاشتراط.
والجواب : التقدير ليكن أكلكم مقصوراً على ما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين والمراد أنه لو حكم بإباحة أكل الميتة لقدح ذلك في كونه مؤمناً.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٢٨
١٣٠
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وحفص عن عاصم ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ بالفتح في الحرفين، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بالضم في الحرفين، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم / ﴿فَصْلٌ﴾ بالفتح ﴿وَحَرَّمَ﴾ بالضم، فمن قرأ بالفتح في الحرفين فقد احتج بوجهين : الأول : أنه تمسك في فتح قوله :﴿فَصْلٌ﴾ بقوله :﴿قَدْ فَصَّلْنَا الايَـاتِ﴾ وفي فتح قوله :﴿حَرَّمَ﴾ بقوله :﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾.
والوجه الثاني : التمسك بقوله :﴿مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ فيجب أن يكون الفعل مسنداً إلى الفاعل لتقدم ذكر اسم الله تعالى، وأما الذين قرؤا بالضم في الحرفين فحجتهم قوله :﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ﴾ وقوله :﴿حُرُمَـاتِ﴾ تفصيل لما أجمل في هذه الآية، فلما وجب في التفصيل أن يقال :﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ بفعل ما لم يسم فاعله وجب في الإجمال كذلك وهو قوله :﴿مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ ولما ثبت وجوب ﴿حَرَّمَ﴾ بضم الحاء فكذلك يجب ﴿فَصْلٌ﴾ بضم الفاء لأن هذا المفصل هو ذلك المحرم المجمل بعينه. وأيضاً فإنه تعالى قال :﴿وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَـابَ مُفَصَّلا ﴾ وقوله :﴿مُفَصَّلا ﴾ يدل على فصل. وأما من قرأ ﴿فَصْلٌ﴾ بالفتح وحرم بالضم فحجته في قوله :﴿فَصْلٌ﴾ قوله :﴿قَدْ فَصَّلْنَا الايَـاتِ﴾ وفي قوله :﴿حَرَّمَ﴾ قوله :﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٣٠


الصفحة التالية
Icon