المسألة الثانية : قوله :﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ أكثر المفسرين قالوا : المراد منه قوله تعالى في أول سورة المائدة :﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ﴾ وفيه إشكال : وهو أن سورة الأنعام مكية وسورة المائدة مدنية، وهي آخر ما أنزل الله بالمدينة. وقوله :﴿وَقَدْ فَصَّلَ﴾ يقتضي أن يكون ذلك المفصل مقدماً على هذا المجمل، والمدني متأخر عن المكي، والمتأخر يمتنع كونه متقدماً. بل الأولى أن يقال المراد قوله بعد هذه الآية :﴿قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ﴾ يطعمه. وهذه الآية وإن كانت مذكورة بعد هذه الآية بقليل إلا أن هذا القدر من التأخير لا يمنع أن يكون هو المراد والله أعلم. وقوله :﴿إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه ﴾ أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة.
ثم قال :﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَآئِهِم﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿لَّيُضِلُّونَ﴾ بفتح الياء وكذلك في يونس ﴿رَبَّنَا لِيُضِلُّوا ﴾ وفي إبراهيم ﴿لِيُضِلُّوا ﴾ وفي الحج ﴿ثَانِىَ عِطْفِه لِيُضِلَّ﴾ وفي لقمان ﴿لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ﴾ وفي الزمر ﴿أَندَادًا لِّيُضِلَّ﴾ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي جميع ذلك بضم الياء. وقرأ نافع وابن عامر ههنا وفي يونس بفتح الياء، وفي سائر المواضع بالضم، فمن قرأ بالفتح أشار إلى كونه ضالاً، ومن قرأ بالضم أشار إلى كونه مضلاً. قال : وهذا أقوى في الذم لأن كل مضل فإنه يجب كونه ضالاً، وقد يكون ضالاً ولا يكون مضلاً، فالمضل أكثر استحقاقاً للذم من الضال.
المسألة الثانية : المراد من قوله :﴿لَّيُضِلُّونَ﴾ قيل إنه عمرو بن لحي، فمن دونه من المشركين. لأنه أول من غير دين إسمعيل واتخذ البحائر والسوائب وأكل الميتة. وقوله :﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ يريد أن / عمرو بن لحي أقدم على هذه المذاهب عن الجهالة الصرفة والضلالة المحضة. وقال الزجاج : المراد منه الذين يحللون الميتة ويناظرونكم في إحلالها، ويحتجون عليها بقولهم لما حل ما تذبحونه أنتم فبأن يحل ما يذبحه الله أولى. وكذلك كل ما يضلون فيه من عبادة الأوثان والطعن في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإنما يتبعون فيه الهوى والشهوة، ولا بصيرة عندهم ولا علم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٣٠
المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام، لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة، والآية دلت على أن ذلك حرام.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ والمراد منه أنه هو العالم بما في قلوبهم وضمائرهم من التعدي وطلب نصرة الباطل والسعي في إخفاء الحق، وإذا كان عالماً بأحوالهم وكان قادراً على مجازاتهم فهو تعالى يجازيهم عليها، والمقصود من هذه الكلمة التهديد والتخويف. والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٣٠
١٣٠
اعلم أنه تعالى لما بين أنه فصل المحرمات أتبعه بما يوجب تركها بالكلية بقوله :﴿وَذَرُوا ظَـاهِرَ الاثْمِ وَبَاطِنَه ا ﴾ والمراد من الإثم ما يوجب الإثم، وذكروا في ظاهر الإثم وباطنه وجهين : الأول : أن ﴿ظَـاهِرَ الاثْمِ﴾ الإعلان بالزنا ﴿وَبَاطِنَه ا ﴾ الاستسرار به. قال الضحاك : كان أهل الجاهلية يرون الزنا حلالاً ما كان سراً، فحرم الله تعالى بهذه الآية السر منه والعلانية. الثاني : أن هذا النهي عام في جميع المحرمات وهو الأصح، لأن تخصيص اللفظ العام بصورة معينة من غير دليل غير جائز، ثم قيل : المراد ما أعلنتم وما أسررتم، وقيل : ما عملتم وما نويتم. وقال ابن الأنباري : يريد وذروا الإثم من جميع جهاته كما تقول : ما أخذت من هذا المال قليلاً ولا كثيراً، تريد ما أخذت منه بوجه من الوجوه، وقال آخرون : معنى الآية النهي عن الإثم مع بيان أنه لا يخرج من كونه إثماً بسبب إخفائه وكتمانه، ويمكن أن يقال : المراد من قوله :﴿وَذَرُوا ظَـاهِرَ الاثْمِ﴾ النهي عن الإقدام على الإثم، ثم قال :﴿وَبَاطِنَه ا ﴾ ليظهر بذلك أن الداعي له إلى ترك ذلك الإثم خوف الله لا خوف الناس. وقال آخرون :﴿ظَـاهِرَ الاثْمِ﴾ أفعال الجوارح ﴿وَبَاطِنَه ا ﴾ أفعال القلوب من الكبر والحسد والعجب وإرادة السوء للمسلمين، ويدخل فيه الاعتقاد والعزم والنظر والظن والتمني واللوم على الخيرات، وبهذا / يظهر فساد قول من يقول : إن ما يوجد في القلب لا يؤاخذ به إذا لم يقترن به عمل فإنه تعالى نهى عن كل هذه الأقسام بهذه الآية.