ثم قال تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الاثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ﴾ ومعنى الاقتراف قد تقدم ذكره. وظاهر النص يدل على أنه لا بد وأن يعاقب المذنب، إلا أن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب لم يعاقب، وأصحابنا زادوا شرطاً ثانياً، وهو أنه تعالى قد يعفو عن المذنب فيترك عقابه كما قال الله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ (النساء : ٤٨).
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٣٠
١٣٢
اعلم أنه تعالى لما بين أنه يحل أكل ما ذبح على اسم الله، ذكر بعده تحريم ما لم يذكر عليه اسم الله، ويدخل فيه الميتة، ويدخل فيه ما ذبح على ذكر الأصنام، والمقصود منه إبطال ما ذكره المشركون. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : نقل عن عطاء أنه قال : كل ما لم يذكر عليه اسم الله من طعام أو شراب، فهو حرام، تمسكاً بعموم هذه الآية. وأما سائر الفقهاء فإنهم أجمعوا على تخصيص هذا العموم بالذبح، ثم اختلفوا فقال مالك : كل ذبح لم يذكر عليه اسم الله فهو حرام، سواء ترك ذلك الذكر عمداً أو نسياناً. وهو قول ابن سيرين وطائفة من المتكلمين. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : إن ترك الذكر عمداً حرم، وإن ترك نسياناً حل. وقال الشافعي رحمه الله تعالى : يحل متروك التسمية سواء ترك عمداً أو خطأ إذا كان الذابح أهلاً للذبح، وقد ذكرنا هذه المسألة على الاستقصاء في تفسير قوله :﴿إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ (المائدة : ٣) فلا فائدة في الإعادة، قال الشافعي رحمه الله تعالى : هذا النهي مخصوص بما إذا ذبح على اسم النصب، ويدل عليه وجوه : أحدها : قوله تعالى :﴿وَإِنَّه لَفِسْقٌ ﴾ وأجمع المسلمون على أنه لا يفسق أكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية. وثانيها : قوله تعالى :﴿وَإِنَّ الشَّيَـاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى ا أَوْلِيَآاـاِهِمْ لِيُجَـادِلُوكُمْ ﴾ (الأنعام : ١٢١) وهذه المناظرة إنما كانت في مسألة الميتة، روي أن ناساً من المشركين قالوا للمسلمين : ما يقتله الصقر والكلب تأكلونه، وما يقتله الله فلا تأكلونه. وعن ابن عباس أنهم قالوا :/ تأكلون ما تقتلونه ولا تأكلون ما يقتله الله، فهذه المناظرة مخصوصة بأكل الميتة، وثالثها : قوله تعالى :﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ وهذا مخصوص بما ذبح على اسم النصب، يعني لو رضيتم بهذه الذبيحة التي ذبحت على اسم إلهية الأوثان، فقد رضيتم بإلهيتها وذلك يوجب الشرك. قال الشافعي رحمه الله تعالى : فأول الآية وإن كان عاماً بحسب الصيغة، إلا أن آخرها لما حصلت فيه هذه القيود الثلاثة علمنا أن المراد من ذلك العموم هو هذا الخصوص، ومما يؤكد هذا المعنى هو أنه تعالى قال :﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّه لَفِسْقٌ ﴾ فقد صار هذا النهي مخصوصاً بما إذا كان هذا الأمر فسقاً، ثم طلبنا في كتاب الله تعالى أنه متى يصير فسقاً ؟
فرأينا هذا الفسق مفسراً في آية أخرى، وهو قوله :﴿قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُه ا إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّه رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ﴾ (الأنعام : ١٤٥) فصار الفسق في هذه الآية مفسراً بما أهل به لغير الله، وإذا كان كذلك كان قوله :﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّه لَفِسْقٌ ﴾ مخصوصاً بما أهل به لغير الله.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٣٢
والمقام الثاني : أن نترك التمسك بهذه المخصصات، لكن نقول لم قلتم إنه لم يوجد ذكر الله ههنا ؟
والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"ذكر الله مع المسلم سواء قال أو لم يقل"، ويحمل هذا الذكر على ذكر القلب.
والمقام الثالث : وهو أن نقول : هب أن هذا الدليل يوجب الحرمة إلا أن سائر الدلائل المذكورة في هذه المسألة توجب الحل/ ومتى تعارضت وجب أن يكون الراجح هو الحل، لأن الأصل في المأكولات الحل، وأيضاً يدل عليه جميع العمومات المقتضية لحل الأكل والانتفاع كقوله تعالى :﴿خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا﴾ (البقرة : ٢٩) وقوله :﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾ (البقرة : ٦٠) لأنه مستطاب بحسب الحس فوجب أن يحل لقوله تعالى :﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَـاتُ ﴾ (المائدة : ٤) ولأنه مال لأن الطبع يميل إليه، فوجب أن لا يحرم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه نهى عن إضاعة المال، فهذا تقرير الكلام في هذه المسألة ومع ذلك فنقول : الأولى بالمسلم أن يحترز عنه لأن ظاهر هذا النص قوي.


الصفحة التالية
Icon