المسألة الثالثة : قال أهل المعاني : قد وصف الكفار بأنهم أموات في قوله :﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍا وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ (النحل : ٢١) وأيضاً في قوله :﴿لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا﴾ (يس : ٧٠) وفي قوله :﴿إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ (النمل : ٨٠) وفي قوله :﴿وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَـاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِى الاحْيَآءُ وَلا الامْوَاتُ ﴾ (فاطر : ١٩ و٢٢) فلما جعل الكفر موتاً والكافر ميتاً، جعل الهدى حياة والمهتدي حياً، وإنما جعل الكفر موتاً لأنه جهل، والجهل يوجب الحيرة والوقفة، فهو كالموت الذي يوجب السكون، وأيضاً الميت لا يهتدي إلى شيء، والجاهل كذلك، والهدى علم وبصر، والعلم والبصر سبب لحصول الرشد والفوز بالنجاة، وقوله :﴿وَجَعَلْنَا لَه نُورًا يَمْشِي بِه فِى النَّاسِ﴾ عطف على قوله ﴿فَأَحْيَيْنَـاهُ﴾ فوجب أن يكون هذا النور مغايراً لتلك الحياة والذي يخطر بالبال والعلم عند الله تعالى أن الأرواح البشرية لها أربع مراتب في المعرفة. فأولها : كونها مستعدة لقبول هذه المعارف وذلك الاستعداد الأصلي يختلف في الأرواح، فربما كانت الروح موصوفة باستعداد كامل قوي شريف، وربما كان ذلك الاستعداد قليلاً ضعيفاً/ ويكون صاحبه بليداً ناقصاً.
والمرتبة الثانية : أن يحصل لها العلوم الكلية الأولية، وهي المسماة بالعقل.
والمرتبة الثالثة : أن يحاول ذلك الإنسان تركيب تلك البديهيات : ويتوصل بتركيبها إلى / تعرف المجهولات الكسبية، إلا أن تلك المعارف ربما لا تكون حاضرة بالفعل، ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استرجاعها واستحضارها، يقدر عليه.
والمرتبة الرابعة : أن تكون تلك المعارف القدسية والجلايا الروحانية حاضرة بالفعل، ويكون جوهر ذلك الروح مشرقاً بتلك المعارف مستضيئاً بها مستكملاً بظهورها فيه.
إذا عرفت هذا فنقول :
المرتبة الأولى : وهي حصول الاستعداد فقط، هي المسماة بالموت.
والمرتبة الثانية : وهي أن تحصل العلوم البديهية الكلية فيه فهي المشار إليها بقوله :﴿فَأَحْيَيْنَـاهُ﴾.
والمرتبة الثالثة : وهي تركيب البديهيات حتى يتوصل بتركيباتها إلى تعرف المجهولات النظرية، فهي المراد من قوله تعالى :﴿وَجَعَلْنَا لَه نُورًا﴾.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٣٥
والمرتبة الرابعة : وهي قوله :﴿يَمْشِي بِه فِى النَّاسِ﴾ إشارة إلى كونه مستحضراً لتلك الجلايا القدسية ناظراً إليها، وعند هذا تتم درجات سعادات النفس الإنسانية، ويمكن أن يقال أيضاً الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح، والنور عبارة عن إيصال نور الوحي والتنزيل به. فإنه لا بد في الإبصار من أمرين : من سلامة الحاسة، ومن طلوع الشمس، فكذلك البصيرة لا بد فيها من أمرين : من سلامة حاسة العقل، ومن طلوع نور الوحي والتنزيل، فلهذا السبب قال المفسرون : المراد بهذا النور، القرآن. ومنهم من قال : هو نور الدين، ومنهم من قال : هو نور الحكمة، والأقوال بأسرها متقاربة، والتحقيق ما ذكرناه. وأما مثل الكافر ﴿النَّاسِ كَمَن مَّثَلُه فِي الظُّلُمَـاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾ وفي قوله :﴿لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾ دقيقة عقلية، وهي أن الشيء إذا دام حصوله مع الشيء صار كالأمر الذاتي والصفة اللازمة له. فإذا دام كون الكافر في ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت تلك الظلمات كالصفة الذاتية اللازمة له يعسر إزالتها عنه، نعوذ بالله من هذه الحالة. وأيضاً الواقف في الظلمات يبقى متحيراً لا يهتدي إلى وجه صلاحه فيستولي عليه الخوف والفزع، والعجز والوقوف.
المسألة الرابعة : اختلفوا في أن هذين المثلين المذكورين هل هما مخصوصان بإنسانين معينين أو عامان في كل مؤمن وكافر. فيه قولان : الأول : أنه خاص بإنسانين على التعيين، ثم فيه وجوه : الأول : قال ابن عباس : إن أبا جهل رمى النبي صلى الله عليه وسلّم بفرث وحمزة يومئذ لم يؤمن، فأخبر حمزة بذلك عند قدومه من صيد له والقوس بيده، فعمد إلى أبي جهل وتوخاه بالقوس، وجعل يضرب رأسه، فقال له أبو جهل : أما ترى ما جاء به ؟
سفه عقولنا، وسب آلهتنا، فقال / حمزة : أنتم أسفه الناس، تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، فنزلت هذه الآية.
والرواية الثانية : قال مقاتل : نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلّم وأبي جهل وذلك أنه قال : زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسى رهان، قالوا منا نبي يوحى إليه. والله لا نؤمن به، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت هذه الآية.
والرواية الثالثة : قال عكرمة والكلبي : نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل.
والرواية الرابعة : قال الضحاك : نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٣٥


الصفحة التالية
Icon